عندما يفقد المرء أحد أعمدة الأسرة فإن الأمر مؤلم جد له أشد الألم لأثره في حياته وحياة أفراد الأسرة لما له من مكانة كبيرة - فإن المرء يعجز في تلك اللحظة أن يعبر عن أحاسيسه ومشاعره نحوه مهما كان عمره.
فإن ألم الفراق شديد، فقد رحل عن هذه الدنيا الفانية عميد أسرة الجبهان الشيخ - سعد بن حسن الجبهان - يرحمه الله - يوم الجمعة الماضية 16- 9- 1436هـ، فإن أبا فهد له تاريخ طويل في مهنة الزراعة وله خبرة لا تُقدّر بثمن فقد عاش بحارة العودة بمحافظة الدِّرعيَّة حيث مراحله الأولى يافعاً وشاباً، وتخرج من مدرسة الحياة وخلف سيرة حسنة عن أسرة الجبهان كافَّة كانت سيرته تروي أموراً عدة مملوءة بأبجديات جميلة وذكريات تزيد القارئ الظمآن ماءً والنعسان إفاقة ضياء يشع من كل حدب وصوب.. نور ساطع لا تشوبه شائبة ولا تعكره نائبة فإن محافظة الدرعية مسقط رأسه حاضرة في ذهنه في أي مكان يرحل إليه يعتز بها كثيراً بما تمتاز به من كثرة أشجار النخيل المثمرة وغيرها.
تجده باستمرار داخل مزرعة والده المطلة على وادي حنيفة يساعد والده على أعباء الزراعة من ري وحرث وتنظيف.
لقد عاش أبو فهد حياة حافلة بشؤون الزراعة، وكان يتمتع بصداقة أخوية مع جيرانه المزارعين ومع كل من يعمل في هذه المهنة الشاقة سواء في عمله الحر أو عمله الرسمي داخل قصر ولي العهد صاحب السمو الملكي آنذاك الأمير - سلطان بن عبد العزيز - رحمه الله - أو من يعمل في هذه المهنة الشريفة والتي عُرفت بمهنة المتاعب، وكان أبو فهد فارسها في ذلك الوقت وظل يحمل هذه المتاعب في وجدانه وإرادته، كما ظلت هذه المهنة تحمله في كل منعطف في تاريخه - كان عميد الأسرة - أبو فهد - رحمه الله - سلطة معينة سواء في (الشأن الأسري) أو الاجتماعي، فكان يحرص حرصاً كبير على إقامة علاقات قوية سواء مع الأقارب أو الجيران، وكان يجمع الأقارب على مدار العام مرة واحدة، لقد وفقه الله بإخوة أعزاء وأبناء أوفياء، إنه شخصية محبه للمداعبة والنكتة مع الصغير والكبير صاحب نخوة وعزيمة وإصرار، فإن روح الإنسانية والوفاء والعطف يتحلى بها عند عزوته - فإن أبا فهد مدرسة في الأعمال الإنسانية والوفاء وذلك بتمسكه بدينه وصلته العميقة بتراث الآباء والأجداد ومواقفه انطلقت ونمت من أخلاقه السامية التي تلقاها من والده وورثها من سيرته الطيبة - فإنني أقف عند هذا الحد الذي أملكه وأحيل الحديث إلى من هو أعرف مني كثيراً عن سيرة هذه الشخصية، وهو الأستاذ - سعود برجس آل مطلب - وفقه الله -، واقتبس من حديثه الطويل ما يلي: قال - سلمه الله - الأمر يستلزم مني العودة إلى الوراء - الخال يتمتع بأعمال جليلة تستحق منا الإشادة بها وعن أخلاقه وكرمه وتواضعه ولين عريكته تحتاج منا التأمل والتفكر - الكل منا يدرك تمام الإدراك أن الحديث عن سيرة أي إنسان لا يخلو من الطرافة الجميلة التي تتكون من عنصر المفاجأة والمباغتة، وهذا الأمر يثير الفكر ويوقظ العقل ويشوِّق النفس البشريَّة، كما أن هذا الحديث يستدرج القارئ والمتلقِّي معاً ويجعله مترقباً لما سيأتي من قول يتشوّق إلى معرفته بلهفة وشوق، وحينئذٍ تأتي الأبجديات الكبيرة التي تعقد اللسان لحظة وتدهش النفس وتوقع في الحس أقصى معاني التعجب والاستغراب.. عندما تنصت إلى أحاديثه المتعددة سواء كانت تاريخية أو اجتماعية، تجد أن خفقات كلماته تفضي إلى نبضات قلبه.. ونبضات قلبه تجعلك قريباً من مشاعره، فهكذا تتداخل الأحاسيس على شكل مراحل ترة هامسة.. وتارة ملامسة للبوح.. وتارة مدمية للجروح.
وحينما تلتقي معه بمزرعته الخاصَّة ليلاً التي تقع بمركز العيينة شمال غرب مدينة الرِّياض تجد ألوان البياض المطرز يحيط بتلك الليلة الجميلة إلى جانب ابتسامات المساء التي تلملم أشتاتنا المرسلة، وها نحن بين أحضان تلك الشجيرات المثمرة حيث تطوف بنا النظرة والنظرتان داخل أسوار تلك المزرعة التي تكتظ بشتى أنواع الثمار، فإن النظرتين مربكتان للعينين.. تدعوان إلى البهجة والسعادة والسرور حيث شدته إلى مسقط رأسه الذي ولد فيه إلا أنه يتذكر الأزقة والميادين وقد أعاد ذاكرته إلى تواريخ وأعوام خلت - رحمه الله وأسكنه فسيح جناته - حيث إن أدوات الماضي لا تنسيه منازل الطين وأزقتها المتعرجة الضيقة ومستلزمات المنازل البسيطة والمتواضعة وأحوال الناس في ذلك الزمن لا تبتعد تلك الأمور عن ذاكرته ولا تنسيه ذلك الماضي العريق بجغرافيته وديموغرافيته، فيملك الكثير والكثير من الذكريات الجميلة التي كلما يجد فرصة مناسبة فإنه يبحر به المقام عن هذه الحياة القاسية التي تتلاطم فيها الأمواج من شتى الجهات - أحياناً المرء يتمنى من الأعماق أن يعود به الزمن إلى الوراء ليكتشف ما فاته من فرص يرى أنها قيمة لديه، وهذا بالمفهوم العلمي الدقيق - فإن روح الإنسانية والوفاء والعطف منه تجاه أبنائه وأقاربه وأهالي حارته سواء أكانوا من ذوي الشأن والمكانة عنده أو من عامة الناس وبسطائهم يندر أن تجد شخصية في عصرنا الحالي تتحلى بهذه الصفات الجميلة، حيث إن هذه المميزات جعلت شخصيته تمتاز بالشيم النبيلة والأخلاق العالية التي أبرزت الجوانب الإنسانية لديه بوضوح في مواقفه وتعامله مع بعض أهالي العودة مما جعل له مكانة رفيعة وحباً عميقاً في قلوب أفراد أسر تلك الحارة.
فالله سبحانه وتعالى يقول في محكم كتابه الكريم: {وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (77) سورة الحج.
وقد صدق نبي الأمة محمد صلوات الله وسلامه عليه قائلاً: (المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه.. من كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته، ومن فرّج عن مسلم كربة فرّج الله عنه بها كربة من كرب يوم القيامة ومن ستر مسلماً ستره الله يوم القيامة) متفق عليه.
سيرة عملية مشرفة يا أبا فهد.. رحمك الله وأسكنك فسيح جناته.
أما الجانب الآخر - فهو رجل بسيط جداً في تعامله.. ومتواصل مع العائلة والأقارب والأصدقاء والجيران - يحرص كل الحرص على حضور كافة المناسبات السعيدة والحزينة، كان لصيقاً بأبنائه الأوفياء - فهو يعتز تمام الاعتزاز بجانبه الإنساني - فهو يضرب الأرض ويسعى ويكدح بكل عناية وحرص واهتمام وتتوارد عليه العواطف الإنسانية يفعل ما يفعله الآخرون ويطمح في معالي الأمور ويترفع عن سفاسف الأمور وينشد المثل الأعلى ويتحلى بالمروءة ويفعل في السر ما يفعله في العلن، تميّز عميد الأسرة - رحمه الله - ببعد نظره وحنكته، فقد كان مقصداً للاستشارة من الأقارب والأحبة وإصلاح ذات البين، وذلك من أجل نشر ثقافة التسامح والعفو بين أفراد الأسرة الواحدة.
ومن خلال هذه الخصال الجميلة توثقت حبال المحبة بينه وبين الآخرين، فهو يحب الجميع ويحبه الجميع بما عُرف عنه من حسن التودد مع الصغير والكبير وما يتسم به من خلق رفيع وأدب وعفة ونزاهة - فقد قال نبي الأمة محمد صلوات الله وسلامه عليه: (أحب الناس إلى الله أنفعهم وأحب الأعمال إلى الله عز وجل سرور تدخله على مسلم أو تكشف عنه كربة أو تقضى عنه ديناً أو تطرد عنه جوعاً).
رحمَ الله عميد أسرة الجبهان الشيخ - سعد بن حسن.. وغفر الله له ولوالديه وأسكنه الفردوس من الجنة {إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ}.
عبد العزيز صالح الصالح - الرياض