د. عيد بن مسعود الجهني
ما يحدث في بعض ديارنا العربية تقصر عن فهمه العقول، ويحير أصحاب الألباب، ويعجز عن تفسيره أُولو النهى، وإن حاول المختصون في السياسة والاقتصاد والإدارة والعلاقات والاجتماع والجغرافية البشرية وغيرهم تفسير ما يحدث فيه، وله طاشت سهامهم، واختلفت آراؤهم، وتعددت تفسيراتهم، وزادوا الأمر قتامة وغموضاً على قتامته وغموضه.
إن ما يحدث على أرض بعض دول العالم العربي - فسّرناه أم لم نفسّره - شيء مؤسف، محزن، وقاسٍ على قلب كل حادب على مصلحة الأمة، حريص على تقدمها ونمائها، بل حريص على استمرار بقائها.
هات خريطة الوطن العربي، وأغمض عينيك، ثم ضع إصبعك على الخريطة فستجد أن إصبعك لا بد واقعة على ساحة اقتتال أو بؤرة توتر أو موقع صراع، وذلك ببساطة لأن جسم بعض الدول العربية كله أصبح مسرحاً للتوتر والصراع والاقتتال وتحوّلت إلى دول فاشلة في مفهوم القانون الدولي، حتى تكسرت السهام على السهام.
هذا هو واقعنا نحن من دون خلق الله جميعاً، لماذا مساحة العالم العربي من دون مساحات كل الدنيا تسكنها الحزازات والنزاعات والصراعات وتذبحها الحروب الأهلية وتُوجع أعضاءها الخلافات؟
انظر إلى مساحات الأرض من القطب الشمالي حتى القطب الجنوبي، ومن اليابان حتى أميركا، هل تجد مساحة في حجم العالم العربي لا تكاد يخلو مكان منها من الصراعات والمحن والجراحات والحروب؟
الإجابة بالتأكيد: لا.
انظر إلى العالم العربي، فلن تجد مكاناً خالياً من الصراعات والمؤامرات والحروب منصرفاً عن التنمية والبناء!
انظر من الغرب إلى الشرق، ستجد في أقصى الغرب الصحراء المغربية وليبيا الملتهبة، وفي أقصى الشرق العراق الجريح وبلاد الشام المدمرة.
كأن المشكلات والصراعات والحروب أرادت أن تكون بين قوسين.
ثم انظر من الشمال إلى الجنوب ستجد في أقصى الشمال لبنان وفلسطين السليبة والقدس الشريف المحتل، وفي أقصى الجنوب الصومال الدامي واليمن الحزين بعد أن كان سعيداً، فلا الشمال ولا الوسط ولا الجنوب في أمان. إن واقعنا محير بقدر ما هو مرير، ومرير بقدر ما هو مثير للدهشة.
نصيب العالم العربي من الأزمات والحروب والمشكلات هو النصيب الأكبر على مستوى العالم!
دون مناطق العالم جميعاً تتركز الصراعات في هذا الجزء من العالم (العالم العربي).
ولنا أن نسأل لماذا لا تخلو منطقة من مناطق هذا العالم العربي من الصراع والاقتتال والفتن؟
والعجيبة أن الاقتتال يكون بين أبناء القطر الواحد والوطن الواحد، فيتآمر المواطن على ابن جلدته ويطلق الأخ الرصاص على صدر أخيه وابن العم على ابن عمه طمعاً أو جشعاً أو ضعف نظر.
لماذا هذا العداء الذي يملأ الصدور بالإحن، والقلوب بالحقد، ويحرك الأيدي فتطلق تلك الأيدي الرصاص على الأخ وابن العم والجار ذي القربى والجار الجنب دون مراعاة لحرمة دم، أو قرابة رحم ونسب أو دين أو حق جوار؟
فهل سبب تلك الصراعات هو الجشع والطمع؟
أم هو الأنانية والنرجسية وحب الذات؟
أم هو نتيجة لقصر النظر وضيق الأفق؟
أم روح المكاسب المؤقتة الكامنة في ركن قصي من نفوسنا لم تمنعها حضارة ولم يقض عليها تمدن، هي المسئولة عن ذلك؟ أم أن الصراعات تحركها أيدٍ أجنبية من وراء ستار؟
ومهما كان الجواب، فنحن بأفعالنا تلك نجرم في حق أوطاننا وحق أنفسنا وحق أجيالنا القادمة.
وعلى كل حال فإن كل تلك الأسباب التي تساءلنا عنها وإن لم تكن وحدها هي من أسباب الصراع، ففي كل تلك الصراعات يتجلى الجشع والطمع في أسوأ صوره، فالأخ يريد كل شيء لنفسه، ولا يريد أن يترك حتى الفتات لأخيه، وفي كل تلك الصراعات أو جلها تبدو الأنانية والنرجسية وحب الذات واضحة جلية للعين حتى لو كان بها عشى فكثير منا لسان حاله يقول: (أنا ثُم أنا والآخرون إلى الجحيم).
فأي عقل وأي بُعد نظر هذا الذي يجعل أبناء الوطن الواحد يقتتلون من أجل مصالح آنية أو مكاسب مؤقتة، ويحرقون باقتتالهم ذلك بلادهم ويحوّلونها إلى دمار، فيزول خيرها ويُشردُ إنسانها، ولا يبقى فيها ما يقتسم إن عادت لهم عقولهم يوماً وقرروا اقتسام خيراتها دون قتال. أما عن وجود أيدٍ أجنبية تؤجج الصراعات، وتحركها في خفاء، فلا ينكرها إلا من كان في عينيه عشى مرض أو في قلبه غشاوة من غرض، أو في نفسه تلبيس من مرض.
ولكن الحقيقة أنه ما كان لهذه الأيدي أن يكون لها أثر لولا أنها وجدت عند بعضنا ضعفاً واستعداداً للانقياد والانصياع لتحقيق أهدافها الخبيثة وأغراضها الدنيئة. والعجيب أن كثيراً من العرب يُبرئون الغرب وأمريكا وإيران وروسيا وغيرها من أي تدخل في الصراعات العربية ويقولون إنهم بريئون منها براءة الذئب من دم ابن يعقوب، حتى وصل بهم الأمر أن سموها (عقدة المؤامرة).
ونقول لهؤلاء: إن التدخل الأجنبي أوضح من أن ينكر وأكبر من أن يخفى، وقد تعدى الآن مرحلة الخفاء والاختفاء إلى الوضوح والمجاهرة والغزو المباشر، فقد كان هؤلاء المتدخلون - قبل مدة من الزمن يتجنبون التدخل السافر، خوفاً من موقف موحد، أو قرار جامع يؤثر بعض تأثير، أو فعل يؤدي إلى شيء من لحُمة وتكتل، فكانوا لذلك يتآمرون سراً ويقرصون من تحت الطاولة.
أما بعد أن تمزقنا أيدي سبأ وضعفنا حتى بلغ الضعف منا مداه، وطمأن الأعداء من استحالة موقف موحد، أو قرار جامع، أو فعل يؤدي إلى لحُمة فاعلة، أصبح لعبهم على (المكشوف) وتدخلهم سافراً فقد أصبحنا عندهم أقل من أن يُراعى لنا خاطر أو يسمع لنا صوت احتجاج.
اليوم ونحن نعيش أول أيام شهر رمضان المبارك: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآَنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ} البقرة 185، شهر الخير والبركات والعتق من النار ومضاعفة الأجر، شهر الانتصارات، في هذا الشهر المبارك الذي كانت فيه معركة بدر الكبرى بداية فاصلة في التاريخ الإسلامي نتيجتها قيام دولة إسلامية سيطرت على نصف مساحة الكرة الأرضية المعروفة في ذلك الزمان.
لعلنا وحالنا اليوم تشتت وتفرق وتمزق غير مسبوق في التاريخ العربي، زمان فيه تمزقت العراق والشام وليبيا واليمن والصومال فالمجوس والأمريكان والروس وغيرهم تدعمهم أيادٍ داخلية عاثوا في هذه الديار فساداً قتلاً وتشريداً وتهجيراً وتمزيقاً واحتلالاً.
لقد صدق علينا حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يوشك أن تداعى عليكم الأمم كما تداعى الأكلة على قصعتها)، فقال قائل: أو من قلة نحن يومئذ؟ قال صلى الله عليه وسلم (بل أنتم يومئذ كثير ولكنكم غثاء كغثاء السيل، وسينزعن الله من صدور عدوكم المهابة منكم وليقذفن في قلوبكم الوهن) قال قائل: يارسول الله وما الوهن؟ قال (حب الدنيا وكراهية الموت) رواه أحمد.
وكمسلمين علينا أن نجعل هذا الشهر المبارك شهراً للوحدة والتلاحم والتضامن والتكاتف جميعاً صفاً واحداً للوقوف في وجه هجمة الفرس وغيرهم، ليت العرب بقيادة خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز يلتقون في مؤتمر قمة عربية تحت قبة جامعتهم التي تأسست عام 1945 قبل منظمة الأمم المتحدة بحوالي ستة أشهر لبحث الوحدة العربية بدلاً من التشتت والتشرذم الذي لازم الأمة لعقود وأصبحت فجوته تزيد في حجمها عاماً بعد آخر حتى اتسع الخرق على الراقع.
وعلينا ألا نستسلم لليأس، وأن نتمسك بأهداب الأمل، فإن التاريخ يحدثنا أن أمتنا قد تعرضت لكبوات كثيرة ونكبات كبيرة، ولكنها نهضت بعد كبواتها وتماثلت للشفاء بعد نكباتها، واستعادت أمجاداً كانت قد سقطت راياتها، وكل ذلك لأنها لم تفقد الأمل ولم تستسلم لليأس.
والله الهادي سواء السبيل.