د. حسن بن فهد الهويمل
تمر بالإنسان لحظات مربكة، تدير الرؤوس، وتغثي النفوس. بحيث لا يدري المأزوم، ماذا يقول، وماذا يفعل، لا لعجز متأصل فيه، ولا لعي خليقة له، ولكن لكثرة المتناقضات التي لم يُحِرْ لها جوابا. وكأنه [خراش] وضباؤه.
ليس مهماً أن يترددَ الحائر في ترتيب الأولويات، أو يجهلَ ضوابط الانتقاء، ولكن المهم أن يكون على ثقة مما يقول، أو يفعل. وأن يكون صاحب موقف، لا يتزحزح عنه، قيد أنْملة. إذ ما أقبح ذو الوجهين، المائل مع الريح حيث تميل.
الوضع العربي مُحَيِّرٌ، فأوراقه مبعثرةٌ، وقضاياه مختلطةٌ، وانتماءاتُه متعددة، وخطاباته متناحرة، يقضي سحائب دهره مُتشحاً بتاريخه، مُجتراً لأوهامه، الأمر الذي جعل اختراقه من أيسر الأمور، وزجه في الفتن من أهون المهمات.
وكل متحدث فيه، أو عنه، يتجاذبه الانتماء الهش، والتغرير الماكر، والنسق الثقافي المتشكل في غفلة من العقل، ويقظة جامحة من العاطفة.
الاشكالية في استبانة الانتماء المحرك، والتعرف على النسق الموجِّه، لأنهما يشبهان المرآة في كف الأشل، حتى لكأنهما الماء الجاري، ثبات الرؤية لا يثبت المْرئي.
أحسب أنه من السهولة بمكان أن يبوح المستدرج بما فيه، ثم يمضي حيث تأمره العواطف الهوجاء، وتوجهه الأهواءُ المَؤلَّهة ، ولكن من الصعوبة أن يفكر، وأن يُقَدِّر، وأن يُدَبِّر في ظل ظروف سيئة ضاغطة، وأوضاع متردية مستحكمة.
إن كلمة واحدة تتفوه بها المتردية، والنطيحة، يبتدرها ألف معارض، لا يدرون ما السياسة، ولا المعرفة. ولربما تكون تلك الكلمة كدوائر اليم، يُلْقى فيه بالحجر، تنداح مسرعة في الاتساع، والتشعب، محدثه فرقة لإلقاء بعدها.
لم أشأ تأزيم الموقف، ولا التيئيس من الخلاص، ولاجلد الذات، ولكنني أصف واقعاً مأزوماً، لا يحتاج إلى دليل، ولا يحتمل السكوت.
الحياة أياً كان شكلها صعبةُ المعايشة، معقدة المسائل، ملتوية السبل. هذا إذا جاءت الأمور على ما يرام، فكيف بها إذا جَرَتْ رياحها بما لا تشتهي السفن، وهنا ليس بالإمكان الخلوص من عقابيلها :-
{لَقَد خَلَقنَا الإِنسَانَ فِى كَبَدٍ}.
وهي إذ تكون قَدَرَ صاحبها، فإن خلاصه منها سالماً معافى يكمن في إتقان الأدوار التي يمثلها على خشبة المسرح، والا نسحاب إلى [الكواليس ] بأقل الجهد، وأهون التكاليف.
لست جَبْرِياً، ولا قَدَرِياً، ولا مُخَيَّراً على الإطلاق، ولا مُسَيَّراً، دون اختيار. أنا وسط بين هذا، وذاك. وقد حسمها من لا ينطق عن الهوى بقوله :- [اعملوا فكل ميسر لما خلق له].
قضاؤنا عصيب، ومشاكلنا مستحكمة الحلقات، وبصيص التفاؤل يُسْتوحى من :-
[وقد يَجْمَعُ الله الشَّتِيْتَين بَعدَما
يَظُنَّانِ كُلَّ الظَّنِّ أَلا تَلاقِيا ]
عالمنا العربي يعيش وضعاً مأساوياً، معقداً. وحالته مأزومة، وليس من الحكمة أن يتسلل المقتدرون لِواذاً، بحيث تتصدر الرويبضات، ويتمكن الأعداء من رقاب الأبرياء. لابد من مواجهة القدر، والإيمان بخيره، وشره، واحتساب الأجر على الله. ومتى أكره الأنسان على ركوب الأَسِنَّة، فإن الله ناصره، وآخذ بنا صيته.
قدر الأمة العربية أن أعداءها يتمتعون بجلد الفاجر، ومكر المنافق، ويأتونها من بين أيديها، ومن خلفها، ومن تحت أرجلها، وعن أيمانها، وعن شمائلها، ثم لا تجد نفسها قادرة على إدارة هذا الوضع.
[إيران ] منذ أن حطت الطائرة المشؤومة المقلة، ل [ آية الله الخميني ] وهي في حالة حرب معلنة، وغير معلنة، مع الأمة العربية، لا تجدها إلا حيث تكون الفتنة، أفسدت مابين الأخ، وأخيه، وأشعلت حرب السِّنان، واللسان.
واللاعبون الذين أشربوا في قلوبهم توصيات [ مؤتمر 1907 ]، ووثيقة منظمة [البحث والتطوير الأمريكية] [راند] يذكون جذوتها، كلما خبت.
هذا المؤتمر الماكر استصرخ له وزير خارجية بريطانيا آنذاك[ هنري كامبل بانرمان ] الدول الاستعمارية السبع [بريطانيا، وفرنسا، وهولندا، وبلجيكا، وإسبانيا، وايطاليا ] تمخض عن وثيقة سميت فيما بعد بـ[ وثيقة كامبل ] والتي نظروا منها إلى نقطتين مهمتين :-
- أهمية المنطقة العربية من المحيط إلى الخليج.
- وحدة التاريخ، والدين، واللسان.
وخرجوا بتوصية عدوانية، ذات ثلاث شعب :-
- الإبقاء على التخلف العربي.
- محاربة أي توجه وحدوي.
- غرس جسم غريب أشبه بالنار الهادئة.
فكان من بوادر التوصيات القاتلة، أن غُرِسَتْ [إسرائيل ] التي برعت بسك اللعب الموجعة، وجاءت ضربة المعلم في نبش الحقد المجوسي، والدفع به ليتولى إشعال الفتن هنا، وهناك، وشغل العالم العربي، والقضاء على كل إمكانياته.
حتى لقد كانت تلك اللعبة من أقذر اللعب، وأطولها نفساً، وأشدها وقعاً، وأقواها جَلَداً، وأقدرها على المراوحة بين التخريب المباشر، والإفساد بالإغراء، واستدراج [شيعة العرب] لمواجهة أهل السنة، والعروبة. ولو كان العقل العربي حاضراً لما كان ما كان.
أما وثيقة [راند ] فقد فُكِّكت، وقُوِّمت في كتاب [الإسلام الذي يريده الغرب ] ولا مزيد على ما كتب.
فأين العقل أمام تلك المكائد السافرة؟.
في هذا التداخل العجيب، تنوعت الخطيئات، وتعددت المقترفات. بدأ الخطاب [القومي] بإزاء [التتريك] العثماني، وسقطت الخلافة بعد أن فقدت أهليتها، ليقوم الاستعمار المستبد مقامها، وخرج الاستعمار بعدما اثخن في الأرض، مخلفاً طابوره الخامس، وخطابَ الاستغراب المقتفي لأثر الاستشراق.
وقام الجيش العربي بانقلاباته المتلاحقة، وخطاباته العنترية، الطوباوية، وضاع بين هذا، وذاك تاريخ عريق، وإرث حضاري مشرق.
واشتعلت الخطابات المتناحرة. وأوى العدو الماكر المستكبر إلى ربوة ذات قرار مكين، يراقب المهزلة، ويحول دون أي قرار مصيري، يحقن الدماء ويُرَشِّد المسيرة، ويجمع الكلمة.
ومع تتابع المؤامرات، والدسائس، تفرقت بالأمة العربية السبل، ودخلت متاهات يحار فيها القطا، و عند غياب العقل أذعن الجميع لهذا الزيف، واستجابوا لهذا الكيد.
لعبت أمتنا بغباء معتق أدواراً ليست في العير، ولا في النفير. تقاتل بالإنابة، وتمزق ذاتها تحت شعارات مفتعلة : طائفية، وعرقية، ودينية، وإقليمية.
نادت بـ[القومية] حتى بح صوتها، ثم خلطتها بشيء من الإسلام، فاستساغها البعض، وامتعض منها آخرون.
وطغت [القطرية]، حتى نبش المتحمسون [ الفينيقية ] و [الفرعونية ].
وهبت [الاشتراكية] وحُلِّيت بمعسول الادعاء، ليستساغ مذاقها، وذلك حين التُمِس تداخلها مع الإسلام، حتى خاطب الشاعر [ أحمد شوقي ] الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله:-
[ الاشتراكيون أنت زعيمهم ]. واتخذ المجادلون [أبا ذر ]رضى الله عنه رمزاً لها. ودعك من [ الغربنة ] و[اللبرلة ] و[العلمنة] و[الحدثنة ]، وسائر المستجدات.
وفواتير هذه التقلبات، يدفعها المواطن العربي من غذائه، ودوائه، وأمنه واستقراره، حتى أصبح بهذا السَّرف مسكينا ذا متربة.
ويمضي الإعلام يَمْحو ما يشاء، ويثبت، وليست في يده أم الكتاب،
وكأنه [ الرقاشي ] الذي خاطبه [ابن أبي أمية ] بقوله :-
شَهِدْتُ الرقاشِيَّ في مَجْلِس
وكان إِليَّ بغيضاً مقيتا
فقال أقترح كُلَّ ماتَشْتهِي
فقلت اقترحت عليك السكوت
والإعلام في هذه المعامع استهلك كل أقنعته. وحين تعرى، بدت سوءته كأقبح ما تكون السوءات، ولكن بعد فوات الأوان. وهو اليوم يعود بأقنعة تعرف منها، وتنكر.
عاد كأقوى ما يكون، وكأنه [ يأجوج ومأجوج ] يملأ الرحب، ويسد الأفق .
لقد أعاد مغالطاته، وادعاءاته جذعة، متوسلاً بالتقنية الحديثة، والتهافت الأبله، والاستخدام الهمجي المدمن، مكرساً الطائفية، و[الإثنية ] و[العرقية] مُلِحاً بلسنه، وبلاغته، ليجعل الإنسان العربي [ في لجة أمسك فلانا عن فل ].
ما نحمد الله عليه أن [ المملكة العربية السعودية ] لم تُستعمر. ولم تمر بانقلابات عسكرية. ولم تَتَبَنَّ اشتراكية، ولا قومية. ولم تُبْتلَ بفراغ دستوري، ولكنها لم تسلم من دخن ذلك كله، تبني ما انهدم. وترمم ما انصدع. وتواسي من نكب. وتأسو من جرح. وتتوجع لمن تضرر. و[ لابد للحجاز من ضربة عصا]، و [لابد للمصدور من فيضان].
يتبع...