د.موسى بن عيسى العويس
* لم يكن يدر في خلد الشاعر السوري المغترب أن يتجدد في الذاكرة قوله:
دمشق إن أشجت الأوطان مغترباً
إني لأوجعً من أشجته أوطانُ
والله لولا ظروف العيش ما بقيت
بيني وبينك أبحارَ وبلدانُ
* موجة الهجرات لا تنقطع على مر التاريخ لكنها تهدأ في بعض فتراته وتزداد في فترات أخرى، والمؤرخون يرصدون، ويحللون، ويفسرون كل من الزاوية التي يراها، أو تتصل بالظروف التي يعيشها، ومن يرقب الحدث من الداخل لا كمن يرقبه من الخارج، فالأول يكتب من واقع معاش، والأخير من عواطف تتنازع، يختلط فيها الصدق وخلافه.
* في السنوات الأخيرة، وتزامناً مع أحداث (الربيع العربي) سيء الذكر تزايد القلق عند بعض الدول الأوربية المتاخمة من الهجرة غير الشرعية، وبخاصة من تلك البلدان المضطربة في الشرق الأوسط، التي نزحت شعوبها زرافات ووحداناً.
* وظاهرة الهجرة وعدم استقرار بعض الشعوب هي من الأوتار التي عزف عليها السياسيون حينما تناولوا خارطة الشرق الأوسط الجديد كما يسمونه. فقبل الثورات الأخيرة بفترة قصيرة كانوا يشيرون إلى أهمية إيجاد بيئة حرة ديمقراطية تستوعب تنامي أعداد السكان في تلك الأقطار الثرية، وتكون عامل استقرار وعيش كريم لهم حاضراً ومستقبلاً، ليعيشوا كما يعيش غيرهم من سكان دول العالم الأول.
* خلاف المتوقع، فمن البيّن أن (الربيع العربي) فاقم المشكلة على الأقل من المنظور القريب، إذ لم يكن عاملاً من عوامل الاستقرار والرخاء بالنسبة للمواطن العربي المتفاءل، بل تفاقمت ظاهرة الهجرة لأسباب تختلف في دواعيها عما كانت عليه قبل عواصف الربيع العربي، وتياراته الحارة والباردة.
* هناك أسباب متعددة للهجرة، فقد تتمثل في الهروب من استبداد بعض الأنظمة، كما هو الحال في العراق، وسوريا، وليبيا، وفي الغالب أن هذه الفئات من المهاجرين نخبويون، ويمثلون بعض الطوائف المهشمة من المشاركة في الحياة السياسية، وهؤلاء لا يشكلون في الغالب أدنى قلق في البلدان التي استوطنوها، فهم على قدر كبير من الكفاءة والقدرات، وعلى مستوى لا بأس فيه من الثراء وحسن المعيشة، وخروجهم لم يكن إلا حفاظاً على الكرامة التي سلبت. وفي تلك الأقطار وجدوا شيئاً من أجواء الحريات التي افتقدوها في بلدانهم الأصلية، وهؤلاء ينطبق عليهم قول القائل:
وغربة الفكر في دارِ تمجدها
أقسى على الحرّ من فقدان ناظره
* الأخطر من تلك الفئات المهاجرة هي التي فرت من ويلات وجحيم الحروب، والصراعات المحلية والإقليمية التي تعددت أسبابها. هذه الفئة في الأغلب ضحايا نكبات عديدة في الحياة، منهم الفقير، واليتيم، والمشرد قسرياً، والمضطهد عرقياً، والمفتقر للتعليم، ولا غرابة إذ أمسوا مصدر قلق كبير، وخطر جسيم على تركيبة المجتمع المتحضر، خطر أمني، وسياسي، واجتماعي، واقتصادي.
* هناك من يتفاءل ويعتقد أن مثل تلك الظواهر ستنحسر وستعود بلدان الشرق الأوسط التي كانت طاردة بيئات جاذبة لهذه الفئات، لكن ذلك يحتاج إلى فترة زمنية لا تقل عن ربع قرن تتشكل فيها أوضاع بعض البلدان المنكوبة من الناحية الاجتماعية، والاقتصادية، والسياسية (وإنَّ غداً لناظره قريبُ).