حمّاد السالمي
كيف يمكن لك أن ترى من جديد؛ البلد الذي غبت عنه أربعين عاماً؛ فتقف أمام مدنه وأهله وأسواقه وطرقاته مرة ثانية..؟!.
مزيج من الاندهاش الكبير لما أرى، وصور من الذكريات التي تخطفت ذهنيتي وأنا أعبر جسر الملك فهد بين المملكتين. الجسر الذي حقق أكبر وأعظم هدف في تاريخ مجلس التعاون الخليجي، ألا وهو الاندماج الجغرافي والبشري بين أبناء المجلس، المتجانسين
ابتداءً في الأصل والدين واللغة والتاريخ والثقافة.
من هنا عبرت إلى (دولة البحرين) قبل أكثر من أربعين عاماً قبل أن تتحول إلى (مملكة).. عبرت جواً لا بحراً ولا براً. اليوم ها أنا أسير براً بين المملكتين وكأني أنتقل من مدينة إلى أخرى في بلد واحد. أرتال من السيارات التي تحمل الناس والبضائع فوق الجسر، وتعلن عن حضور (سعودي بحريني كويتي قطري إماراتي عماني). رحم الله أبا سهيل؛ الشاعر السفير الوزير غازي القصيبي، الذي صور هذا المشهد في 12 نوفمبر 1986م يوم افتتاح الجسر حيث قال:
ضرب من العشق لا درب من الحجر
هذا الذي طار بالواحات للجزر
ساق الخيام إلى الشطآن فانزلقت
عبر المياه شراع أبيض الخفر
العشق والحب والتكامل.. هو هذا الذي أرى اليوم في وجوه العابرين جيئة وذهاباً فوق هذا الجسر العظيم، الذي سوف يُعزز بجسر (الملك حمد بن عيسى آل خليفة) في قادم الأيام.
في نهاية العام 1975م؛ وبعيد استشهاد (الملك فيصل بن عبدالعزيز) -رحمه الله- بأشهر، وصلت البحرين بدعوة من سفارتها في جدة، والتقيت بداية وزير الإعلام المعروف طارق المؤيد في مكتبه، ومكثت ستة أيام بين جولات وزيارات في بلد صغير أوان ذاك؛ وبعد صلاة الجمعة؛ كنت في قصر المرحوم (الشيخ عيسى بن سلمان آل خليفة) -رحمه الله-، ضمن حشد من ضيوفه بترتيب من وزارة الإعلام، وما هي إلا دقائق؛ حتى نهض (رحمه الله) من مجلسه، وأخذني بيدي إلى مكتب مجاور للمجلس، ولم يكن معنا إلا رجل أمن على الباب قام بتصويرنا، وفتحت جهاز التسجيل، ورحت أسأل وهو يجيب في حديث صحافي نشر وقتها بصحيفة الندوة على صفحة كاملة. كان (رحمه الله) متأثراً بفقد الملك فيصل، وركز على التكامل بين المملكة والبحرين، بل وبقية دول الخليج العربي، وقال نصاً: (المملكة هي قلبنا النابض، ونحن في الخليج الأجنحة)، وحدثني عن كيفية تدخل القوات السعودية قبل أشهر أيضاً؛ لوقف التدخلات الإيرانية وإعادة الأمن إلى ربوع البحرين من جديد..! أمير البحرين أوان ذاك الشيخ (عيسى بن سلمان آل خليفة) هو سليل أسرة مالكة في البحرين منذ مئات السنين، وهو والد ملك البحرين الحالي (حمد بن عيسى آل خليفة)، وهو المؤسس لبحرين ما بعد الاستقلال عام 1970م.
التدخلات الإيرانية والأطماع الصفوية إذن حتى من أيام الشاه..! التاريخ يعيد نفسه، فمملكة البحرين تتعرض كذلك إلى خطط صفوية لابتلاعها من جديد، وقوات درع الجزيرة تقف لها بالمرصاد. هنا نقف محيين فكرة إنشاء مجلس التعاون الخليجي، التي برزت في شكل منظومة سياسية واقتصادية ثم عسكرية يوم 25 مايو 1981م.
ليست المنامة ولا المحرق في مملكة البحرين من المدن الطارئة بعد النفط. فهنا كانت منذ آلاف السنين (دلمون- ثم تايلوس- ثم أوال). حضارة ودولة قامت في جزيرة البحرين وشرق الجزيرة العربية إلى القرن الثالث عشر الميلادي، وعرّفها السومريون بأرض الفردوس وأرض الخلود والحياة.
كنت أختلس بعض الوقت من برنامج (الملتقى العلمي السادس عشر لجمعية التاريخ والآثار بدول مجلس التعاون الخليجي لدول الخليج العربية)، الذي انتظم هنا نهاية شهر أبريل الفارط، من أجل التجول في المنامة، والبحث عن مشاهد كنت رأيتها قبل أربعين عاماً..! حال بيني وبين ذلك هذه الأبراج الشاهقة، وهذه الطرق الفسيحة، وهذه الأسواق الضاجة بالحركة، وهذه المطاعم الراقية، وهذه المراكز العلمية والثقافية التي تمتاز بها عاصمة البحرين، ولهذا اختيرت لهذه الملتقى، الذي حفل بـ(22 بحثاً) عن تاريخ وآثار دول المجلس، وهذه صورة أخرى للتكامل التاريخي والثقافي والاجتماعي؛ يجسدها عشرات، بل مئات المؤرخين والباحثين أعضاء جمعية المؤرخين الخليجيين.
تطورت البحرين وتقدمت كثيراً في مجالات علمية وثقافية وعمرانية وتجارية، فهي التي كانت وما زالت همزة الوصل بين الجزيرة العربية والشرق، وهي لؤلؤة الخليج العربي، وصاحبة السبق في صيد وتصدير لؤلؤ الخليج الشهير عالمياً.
ومن يكون في أجواء البحرين الأدبية والثقافية، لابد أن يتذكر أنها كانت منبراً للفن والشعر والأدب والثقافة منذ عقود طويلة. وأنها شهدت افتتاح أول دورة في كأس الخليج العربية عام 1971م. يتذكر صوتها الصادح محمد زويد، وشعراءها الكبار: (عيسى بن سلمان آل خليفة)، و(إبراهيم العريض)، و(عبد الرحمن رفيع)، ويتذكر لاعبها الكبير (حمود سلطان)، وأسماء لامعة في سماء البحرين في السياسة والقيادة والأدب والتجارة وغيرها.
هنا في مملكة البحرين، حراك ثقافي مالي تجاري كبير، يتسم بالحداثة، ويحمل جينات دالة على أن الشعب البحريني رغم كل شيء، ينتمي إلى أصوله العربية، وينتمي إلى منظومة خليجية قوية، تعيش حاضرها بكل تطلعاته وتحدياته.