د.محمد الشويعر
واحد من شيوخ الإسلام والفقهاء المرموقين ومن المشهود لهم بالمكانة العالية والفقه، إنه سفيان ابن عيينة بن ميمون الهلالي الكوفي ثم المكي، محدث فقيه، ولد بالكوفة عام 107هـ في النصف من شعبان، ولقي في الكوفة الكبار من العلماء،
ولحرصه ورغبته فقد حمل عنهم علماً كثيراً، وجمع منهم وألّف في التفسير والحديث، فكان له مكانة حيث ازدحم طلاب العلم عليه، بل رحلوا للأخذ عنه والالتقاء به، من أماكن شتى، وقد توفي بمكة عام 196هـ.
وقد طلب العلم صغيراً، وزاحم في حلقات كبار العلماء، وقد أخذه بإتقان عن أكثر من خمسين شيخاً، وتعلّق به طلاب العلم، وجاءوا إليه من أطراف البلاد الإسلامية لمكانته وسُمعته حتى قيل إن فلسفاً من فلاسفة طلبة العلم وبخاصة الحديث، يتكلفون في الحج، وما المحرك لهم سوى لقيا سفيان بن عيينة والأخذ عنه لمكانته وعلو إسناده، بل بلغ الأمر إلى أن يجاور عنده في مكة غير واحد في الحفّاظ، ويُعتبر من كبار أصحابه الغريب أكثر وافد لأخذ عنه: الحميدي والشافعي، وابن المديني وأحمد بن حنبل، وإبراهيم الرمادي، ويروي عنه الإمام الشافعي قوله: لولا مالك وسفيان بن عيينة، لذهب علم الحجاز، ويقول أيضاً: وجدت أحاديث الأحكام كلها عند سفيان بن عيينة سوى ستة أحاديث، ووجدتها كلها عند مالك سوى ثلاثين حديثاً.
وهذا القول من الشافعي يوضح للقارئ سعة دائرة سفيان بن عيينة في العلم، وذلك لأنه فهم أحاديث العراقيين عندما كان في الكوفة، إلى أحاديث الحجازيين لما نزل مكة واستقر بها.
وقد حدث أحمد بن النضر الهلالي قال: سمعت أبي يقول: كنت في مجلس سفيان بن عيينة، فنظر إلى صبي دخل المسجد، فكان أهل المجلس تهاونوا به لصغر سنه، فقال سفيان: (كَذَلِكَ كُنتُم مِّن قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ )[النساء آية: 94]، ثم قال: يا نضر، لو رأيتني ولي عشر سنين، طولي خمسة أشبار، ووجهي كالدينار، وأنا شعلة نار، ثيابي صغار، وأكمامي قصار، وذيلي بمقدار، ونعلي كآذان الفار، أختلف إلى علماء الأمصار مثل الزهري وعمرو بن دينار، أجلس بينهم كالمسمار محبرتي كالجوزة، مقلمتي كالموزة، وقلمي كاللوزة، فإذا دخلت المجلس قالوا: أوسعوا للشيخ الصغير.... ثم ضحك.
وعلّق على هذا الذهبي بقوله: في صحة هذا نظر، وإنما سمع في المذكورين وهو ابن خمس عشرة سنة أو أكثر.
وقد رأى رؤيا فحدّث بها شيخه ابن شهاب الزهري، قال: رأيت كأن أسناني سقطت فذكرت ذلك للزهري، فقال: تموت أسنانك، وتبقى أنت، فماتت أسناني وبقيت أنا يجعل الله كل عدو لي محدثاً... وعلى هذا القول علق الإمام الذهبي بقوله: قال هذا في شدة ما كان يلقى في ازدحام أصحاب الحديث عليه حتى يبرموه.
يقول ابن خلكان: رأيت في بعض المجاميع أن سفيان خرج يوماً إلى من جاءه يسمع منه وهو ضجر، فقال: أليس من الشقاء أن أكون جالست ضمرة بن سعيد وجالس هو أبا سعيد الخدري، وجالست عمرو بن دينار وجالس هو ابن عمر رضي الله عنهما، وجالست الزهري وجالس هو أنس بن مالك، حتى عد جماعة، ثم أنا أجالسكم فقال له حدث في المجلس: أتنصف يا أبا محمد قال: إن شاء الله تعالى، فقال: والله لشقاء أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بك أشد من شقائك بنا؛ فأطرق وأنشد قول أبي نواس:
خل جنبيك لرام
وامض عنه بسلام
مت بداء الصمت خير
لك من داء الكلام
إنما السالم من أل
جم فاه بلجام
فتفرق الناس وهم يتحدثون برجاحة الحدث، وكان ذلك الحدث يحيى بن أكثم التميمي، فقال سفيان: هذا الغلام يصلح لصحبة هؤلاء، يعني السلطان.
وكان أبو سفيان المذكور من عمال خالد بن عبد الله القسري، فلما عزل خالد عن العراق، وولى يوسف بن عمر النقض، طلب عمار خالد فهرب أبو عمران المذكور منه إلى مكة منزلها وهو من أهل الكوفة.
أما أبو عيينة فكان صيرفياً بالكوفة، فركبه دين فانتقل إلى مكة وحمل أهله وولاه قال سفيان: فقدت إلى المسجد، فإذا عمرو بن دينار، فحدثني ثمانية أحاديث، فأمسكت له حماره حتى صلى وخرج، فعرضت الأحاديث عليه، فقال: بارك الله فيك.
وقال سفيان عن نفسه: وقال سفيان: دخلت الكوفة ولم يتم لي عشرون سنة، فقال أبو حنيفة لأصحابه ولأهل الكوفة: جاءكم حافظ علم عمرو بن دينار، قال: فجاء الناس يسألونني عن عمرو بن دينار، فأول من صيرني محدثاً أبو حنيفة، فذاكرته فقال لي: يا بني، ما سمعت من عمرو إلا ثلاثة أحاديث، يضطرب في حفظ تلك الأحاديث.
وكان في سفيان صفات جميلة، وحب للخير، قال رجل: كنت أمشي مع سفيان بن عيينة إذ أتاه سائل فما كان معه ما يعطيه، فبكى سفيان فقلت: ما يبكيك يا أبا محمد؟ قال: أي مصيبة أعظم من أن يؤمل فيك رجل خيراً فلا يصيبه.
ويقول الخطيب البغدادي: سفيان بن عيينة، جده أبو عمران ولد بالكوفة وسكن مكة وقدم بغداد، وكان لسفيان بن عيينة تسعة إخوة حدث منهم أربعة محمد وآدم وعمران وإبراهيم فأما سفيان فكان له في العلم قدر كبير، ومحل خطير أدرك نيفاً وثمانين نفساً من التابعين، ثم ذكر عدداً كبيراً من شيوخه.
وفي دفته في البحث، وحرصه على التأسي قال محمد بن ميمون: سمعت ابن عيينة يقول: حضرت ابن جريج فسمعته يقول: حدثنا رجل عن ابن عباس، وحدثنا رجل قال: سالت ابن عباس فقلت: ينبغي أن يكون هذا حياً، فلما كان يوم الجمعة تصفحت الأبواب، فإذا أنا بشيخ قد دخل من ها هنا - وأشار ابن عيينة إلى بعض أبواب المسجد - فقلت: رأيت ابن عباس؟
فقال: عم، سألت ابن عباس، ورأيت عبد الله بن عمر، وحدثنا ابن عباس، وسمعت ابن عباس، فسمعت منه، فجلست مع ابن جريج، فلما قال: حدثنا رجل، قال: سمعت ابن عباس، قلت: يا أبا الوليد، حدثنا عبيد الله بن أبي يزيد عن ابن عباس، فقال: قد وقعت عليه يا غواص.
ولحرصه على العلم: ما كتبت شيئاً إلا حفظه قبل أن يكتبه، وعلى طلب العلم كان موقفاً نفسه عليه، ويتحمل في سبيله الشيء الكثير.
فقد مر مكة بن يحيى وابن عيينة قال له: وأراه خبز شعير: هذا طعامي منذ ستين عاماً، ويقول عن يحيى القطان: ما بقي من معلمي أحد غير سفيان بن عيينة، وهو إمام منذ أربعين سنة.
ولما رأى رجلاً مرة قال له سفيان: ما حرفتك؟ قال: طلب الحديث، قال: بشّر أهلك بالإفلاس، ذلك أن الحميدي سمعه مرة يقول له: يدخل هذه المحابر رجل إلا أشقى أهله وولده.
ومن أقوال الحكمة: من كانت معصيته في الشهوة فارج له، ومن كانت معصيته في الكبر فأخشى عليه. فإن آدم عصى الله مشتهياً فغفر له، وإبليس عصى الله متكبراً فلم يغفر له.
وعنده طريقة حسنة مقنعة في التعليم والتأديب، حدث سليمان بن مطر قال: كنا على باب سفيان بن عيينة، فاستأذنا عليه، فلم يأذن لنا، فقلنا: ادخلوا حتى نهجم عليه، قال: فكسرنا بابه، ودخلنا وهو جالس، فنظر إلينا، فقال: سبحان الله، دخلتم داري بغير إذني، وقد حدثنا الزهري عن سهل بن سعد أن رجلاً اطلع في جحر، من باب النبي صلى الله عليه وسلم، ومع النبي صلى الله عليه وسلم مدرى يحك به رأسه فقال: «لو علمت أنك تنظرني لطعنت بها في عينك، إنما جعل الاستئذان من أجل النظر». قال سليمان: فقلنا له: ندمنا يا أبا محمد. فقال: ندمتم؟ حدثنا عبد الكريم الجزري عن زياد، عن عبد الله بن معقل، عن عبد الله بن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الندم توبة». اخرجوا فقد أخذتم رأس مال ابن عيينة.
وقال أبو العباس السراج في تاريخه: حدَّثنا عباس بن أبي طالب، حدثنا أبو بكر عبد الرحمن بن عفان، سمعت ابن عيينة في السنة التي أخذوا فيها بشراً المريسي بمنى، فقام سفيان في المجلس مغضباً، فقال: لقد تكلّموا في القدر والاعتزال، وأمرنا باجتناب القوم، رأينا علماءنا، هذا عمرو بن دينار، وهذا محمد بن المنكدر، حتى ذُكر أيوب بن موسى، والأعمش، ومسعراً، ما يعرفونه إلا كلام الله، ولا نعرفُه إلا كلام الله، فمن قال غير ذا، فعليه لعنةُ الله مرتين، فما أشبهَ هذا بكلام النصارى، فلا تجالسوهم.
وسئل عن الزهد فقال: إذا أُنعم عليه، فشكر، وإذا ابتلى ببلية فصبر، فذلك الزُّهد، ومرة قال: الزُّهد فيما حرَّم الله، فأمَّا ما أحلَّ الله؛ فقد أباحه الله؛ فإنَّ النَّبيِّين قد نكحوا، وركبوا، ولبسوا، وأكلوا، لكن الله نهاهم عن شيءٍ، فانتهوا عنه، وكانوا به زهاداً. ولما قيل له في هذا إن عيسى لم يتزوج قال: إنما كان عيسى ابن مريم عليه السلام لا يريد النساء، لأنه لم يخلق من نطفة.
فرحم الله سفيان بن عيينة فإنه قد قيل إنه في آخر سنة حج قال: جاوزت هذا الموضوع سبعين مرة، وأقول في كل مرة: الله لا تجعله آخر العهد في هذا المكان، وإني قد استحييت من الله من كثرة ما أسأله ذلك، فرجع فتوفي في العام القابل ودفن بالحجون بمكة.