إن ظاهرة الفساد بنوعيه المالي والإداري ظاهرة عالمية، لا يخلو منها أي بلد من بلدان العالم، ويوجد تناسب طردي بين التخلّف والفساد، فكلما كانت الدولة أكثر تخلفاً، كانت أكثر فساداً، والفساد يشكِّل معول هدم لمقومات وجود...
... الدولة واستقرارها، وينخر في بنيانها حتى يتسبّب في انهيارها اقتصادياً وثقافياً وأمنياً وسياسياً، ويزداد الفساد نمواً في البيئة المتخلّفة، وينعكس عليها فساداً، وزيادةً في التخلّف، لما يجلبه من أضرار ومخاطر ذات طبيعة معدية، والتخلّف بدوره ينمي الفساد، ويساعد على سرعة انتشاره وزيادة مفعوله لتدني مستوى الوعي وضعف الحصانة وعدم القدرة على المكافحة.
والفساد المالي هو المصدر الذي يغذّي الفساد الإداري، وتتمحور حوله أغلب أسباب هذا الفساد وأعراضه ومظاهره، وأين ما وُجد شكل من أشكال الفساد فلا بد من البحث عن الفساد المالي باعتباره في الغالب هو الباعث على ارتكاب الفساد ومن أقوى أسبابه، والفساد بشقيه المالي والإداري إذا لم يكن لأحدهما دور مباشر أو غير مباشر في وجود الثاني فهو يُلقي بظلاله على نتائجه وأعراضه، ويؤثّر كل منهما على الآخر ويتأثر به، وبينهما انفصال والتقاء.
وسواء أكان اقتراف الفساد المالي يتم على هيئة اختلاس محدود، أو كان تعدياً على المال العام وأكلاً للسّحت أو الحصول على المال بوسيلة غير وسائل التملّك المشروعة، فإنه يعتبر ظلماً وفساداً في الأرض، وهو سلوك فاسد وتصرف مذموم لا يقترفه إلا ممقوت عند الله وعند الناس، وعادة الاختلاس عادة سيئة، تدفع المختلس إلى التكرار والمعاودة، إذ يجد نفسه متشوّقاً على ذلك مرة بعد أخرى، مطوراً أساليبه ومتفنناً في ممارساته سعياً وراء المال الحرام وبريق الأوهام.
وطالما أن المال هو زينة الحياة وفُطر الإنسان على حبه فإن أهم مصلحة ينشدها هي التي يحصل عن طريقها على مكاسب مالية، وترتيباً على ذلك فإن الفساد المالي هو الأقرب إلى ميول النفس البشرية، وهو المحبب إليها للسبب ذاته، وتتسع دائرته تبعاً لهوى النفس ومطامعها، والمال هو أنجح وسيلة وأنجع أداة لجذب الآخرين واستمالتهم لما ينطوي عليه من إغراءات جاذبة، ومحفزات تؤدي إلى شيوع الفساد المالي وانتشاره، وهنا مكمن خطورته، وما ينجم عنه من مفاسد وأضرار، ومحور ارتكاز ذلك، ومعلمه البارز يتجليان عندما يُغلّب الإنسان مصلحته الخاصة على المصلحة العامة، مستخدماً أساليب ووسائل غير مشروعة، ومتجاهلاً المُثل والقيم، وخارجاً عن نطاق الأخلاق.
والفساد المالي هو سلوك فاسد وعمل باطل ينخرط فيه فئة معينة من الناس، متى ما أتيحت لهم أسبابه بهدف الإثراء الشخصي وخدمة المصالح الخاصة، مهما كان في هذا السلوك من تعد على المال العام وضرر على المصلحة العامة، وإذا ما تجاوز ذلك الحالات الفردية المحدودة وسيطرت عليه خاصية الانتشار، وأصبح ظاهرة تجمع بين الكثرة واتساع النطاق عندئذ تكتمل أبعاده وتتوفر مقاييسه، وتبرز محدداته على نحو يستلزم سبر غوره، والحد من جوره، والمبادرة بعلاجه.والعبثُ بالمال العام والسطو عليه، والتحدي على حقوق المجتمع عادة ما تمارس هذه الممارسات بأساليب احترافية ووسائل مخفية، يحرص من خلالها رُعاة الفساد على امتطاء الصالح العام في سبيل المصالح الشخصية، والتوسل بالحق نحو الباطل، والتذرّع بذرائع محمودة لتحقيق أهداف مذمومة، والفئات المستفيدة وطول الوقت وكثرة الاعتياد وصمت المجتمع، كلها عوامل تشكل بيئة صالحة للاستمرار وأفول نجم الإنكار. والإنسان إذا لم يكن له وازعٌ من ضميره، ورادعٌ من دينه، وأمن العقاب، وسيطر عليه حُب المادة، واستحسن السعي خلفها، وتوفرت له أسباب ذلك، وجد نفسه مهيئاً للأخذ بأدوات الفساد ورسم صوره، وتسمية الأشياء بغير أسمائها، مستخدماً الحيل، ومختلقاً الحجج التي تخول له ممارساته، وتطبعها بطابع قانوني تحت مسميات معينة، ومن أراد شيئاً تهيأت له أسبابه ووسائله، ومما يدل على إصرار النفس البشرية على الفساد وأنه من طباعها ومتأصل فيها حتى لو لم تدركه قوله تعالى:
وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ قَالُواْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ . أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِن لاَّ يَشْعُرُونَ ، وكما قال الشاعر:
ما ظنكم بأناسٍ خيرُ كسْبهمُ
مُصرّحُ السُّحْتِ سَمَّوه الإصاباتِ
والنفس جُبلت على الضعف أمام مغريات المادة، وحب المال والسعي وراءه من الطبائع الملازمة لها، وطغيان سلطان النفس والتطلّع إلى تلبية رغباتها الفاسدة المتمثّلة في إشباع نزعتها الفردية وتغليب مصلحتها الذاتية على حساب مصالح الآخرين تصبح معه هذه النفس ضحية ظلمها وتنزل إلى درك أثرتها، وما تُفضي إليه هذه الأثرة من اتباع الردى والابتعاد عن الهُدى إلى الحد الذي يُفسح المجال لتفاقم الفساد بجميع أشكاله وتداعي أدواته وانفلات ممارساته، ويذكر أن الإسكندر صلب سارقاً، فقال السارق: إنما أخذت المال كارهاً، فقال له: وكذلك تُصلب كارهاً.والبُعد عن الدين والتحلّل عن المثل والقيم وغياب المراقبة والمساءلة، كل ذلك يجعل الاختلاس والتعدي على المال العام أمراً معتاداً عند أربابه، ومن اعتاد عادة حُظيت بالقبول لديه، واستحسنها مع كثرة اعتيادها وتكرار ممارستها، وخصوصاً أن اللهث وراء المادة واستفحال إغراءاتها، يحوّل الاهتمام بما في الجيوب عن السؤال عن العيوب، والنسيان والنفاق الاجتماعي كفيلان بتسليط الأنظار على الثروة وإسدال الستار على مصدرها، ومع مرور الأيام وتجدد مظاهر الثروة وتنوّع استخداماتها، يصبح الطالح صالحاً والمختلسُ شريفاً، ومرد ذلك هو وجود الأثر وغياب المؤثّر وما قد يكون لهذه الثروة من محامد، مقابل تقادم الزمن على ممارسات صاحبها، ونسيان ما واكب الحصول عليها من سوء أحدوثة واتهام ومذام، وكما قال الشاعر:
وللإنسان ظاهر ما يراه
وليس عليه ما تخفى الغيوبُ
يجرون الذيول على المخازي
وقد ملئت من الغش الجيوبُ
ومن المعروف أنه في آخر الزمن يُعاب المؤمن بإيمانه أكثر مما يُعاب الفاجر بفجوره، وفي هذا الزمن الذي طغت فيه المادة على ما عداها، فصارت عند البعض هي المرجع الذي تُقاس بموجبه القياسات، وتحسب على أساسه الحسابات فإن صاحب الثروة الذي حصل عليها بسبب استغلال سلطته ووظيفته، وعلى حساب نزاهته وأمانته أصبح يُمدح بها وتنسب إلى كفاحه ونجاحه، وفي الوقت نفسه فإن نظيف اليد وخميص البطن الذي منعه دينه وضميره وشرف وظيفته من الثراء غير المشروع لم يشفع له ذلك من أن يُعاب من قبل عبدة المادة وكل من غايته تبرّر وسيلته، متهمين إياه بالتقصير وسوء التدبير في حق نفسه، أما النزاهة والعفاف ونظافة اليد فينظرون إليها على أنها مظهر من مظاهر العجز وقلة الحيلة والتفريط في الوسيلة، وكما قال الشاعر:
إذا أردت بأن تُحقِّر صالحاً
يكفيك بين الناس ذكره صلاحه
وإذا مدحت فتىً فعظِّم شرَّه
فلقد غدا فخر الفتى بطلاحه
وقد غاب عن أذهان عبدة الدرهم والدينار أن البركة منزوعة من الحرام، وأنه مجلبة للشر حتى لو نما وكثر، وما يحصل عليه المرء من غير حلّ وبطرق مشبوهة، وحيل محرَّمة، يذهبه الله في أمور تثقل كاهله، وتتجاوز طاقته، ولا يجد مفراً من دفع المال لمقاومتها والتخفيف من وطأتها، والله كفيلٌ بأن يفتح على آكل الحرام أبواباً للإنفاق، تفوق تلك التي استولى عليه منها بالباطل وبدون وجه استحقاق، والمال الذي يؤخذ بالظلم والحيل والخداع يجر على آخذه الهموم والغموم والقلق والتوتر النفسي وقد قال الشاعر:
لا ترغبنْ في كثير المال تكنزهُ
من الحرام فلا ينمي وإن كثُرا
واطلب حلالاً وإن قلّت فواضلهُ
إن الحلال زكيٌّ حيثما ذُكرا
وأدوات الفساد يخدم بعضها بعضاً، وأساليب أهله متعددة ومتجددة، والعلاقات النفعية التي تجمع بينهم سرعان ما تنهار إذا ما انكشف أمرهم، وافتضح سترهم، ومن استغل غفلة غيره، ليأخذ ما ليس له ظلماً أصابته غفلة يفقد فيها حقه، كما استولى على حقوق الآخرين، واعتماد المفسد على ما لا يعتمد عليه، وارتيابه ممن يتعامل معه، يسلمانه للهم الذي يستبد بنفسه، وينغص عليه حياته، ونجاح مسعاه معلّق بين التفكير في فعل العيب وحساب كم في الجيب.والفضيلة عادة ما يجتمع أهلها على الخير، أما الشركاء في الرذيلة فلا يأمن أي منهم جانب الآخر، ويبقى منه دائماً على حذر، ويتوجس منه خيفة، ولا يستنيم إليه، فالشريك في الغش يغش شريكه، ولا يثق فيه، والسارق يخاف منه السارق، وكل واحد منهما حذر من مجاورة صاحبه، والتعامل معه، وهذا هو حال الشركاء في الفساد، حيث تسيطر عليهم الشكوك، ويغلب على تعاملهم فيما بينهم الخوف وفقدان الثقة والحذر المفرط، ومهما جمع بينهم الهدف وألّفت بينهم المصلحة فإن عُمر الفساد وزواج المصلحة لا دوام لهما، والعيون المكسورة لا تعالج نظرتها الجيوب المعمورة.والمستفيد أكثر من الفساد والراعي له تأخذه العزة بالإثم، مدعياً الصلاح، ومستخدماً أفكار قتل الأفكار للرد على كل ناصح، ويتسلّح بالغموض والتكتم تارة، والكذب والهروب من الواقع تارة أخرى، ولا يستقر على حال، ولا يرتاح له بال تجاه من يعاكس رغباته، بل ينأى عنه، ويستدني من هو على شاكلته، ويبحث عن الدُمى وضِعاف النفوس ليدفعهم في الاتجاه الذي يريد، موحياً لهم بالمطلوب، وممكّناً إياهم من الحصول عليه ليكسر عيونهم، ومن ثم يمتطيهم نحو الفساد بعد أن وضعهم بين مطرقة حب المادة وسندان كسر العيون.