عبدالله بن محمد البابطين
ً نقرأ هذه الآية الكريمة مراراً ونستمع لتفسيرها تكراراً ولكن قلالاً أن تشاهد امرءاً يطبق معانيها عياناً، وهذا ما قدّر الله لي أن أشاهده في تعامل الأمير خالد بن عبدالله آل فرحان آل سعود (اللواء الطيار الركن) رحمه الله.
فمنذ أن بدأت علته التي مرض منها لم أسمع منه مرة واحدة شكواه عن دائه المستعصي، فكان يجيب على كل من عاده وسأله عن مرضه بألا يزيد على عبارات الحمد لله والثناء عليه. أمر مرضه لم يكن أياماً أو أسابيع أو أشهراً بل شارف على العقد من الزمان ولم يبد شكواه لأحد من زواره الكثر وأحبائه من جميع الأطياف.
كانت أول مقابلة لي معه في عام 1416 في مكتبه بعد انتقاله من كلية الملك فيصل الجوية (وكان برتبة مقدم طيار) حيث كان قائد جناح ومدرباً فيها، إلى إدارة تدريب القوات الجوية كرئيس قسم الذي كنت أعمل فيه، أدركت حينها أني أقف أمام شخصية مميزة ذي رؤية بعيدة، يفكر كثيراً قبل أن يتحدث، لا تكاد تسمع صوته مرتفعاً أو موبخا أولائماً، يقود فريقه على جميع رتبه ومراتبه بطريقة احترافية إلى أهداف المنشأة الإستراتيجية، ينسب النجاح دائما لفريقه ويذكر هذا للقيادات بشكل واضح ويجير لهم أشكال الشكر سواءً الحسية أو القولية، ولا يحب ذكر اسمه في المشاريع التي يقودها، وأذكر بأن فريقه اجتهدوا مرةً وجهزوا له درعاً تكريمياً -بـــدون علمه- ضمن دروع التكريم للعاملين في أحد المشاريع التي يرأسها، لكي يقدم له من القائد في الحفل مباشرة، وعلم هو بهذا الأمر بشكل غير مباشر من خلال الشؤون العامـــة فأمربحجز الدرع وعدم تقديمه وشكر من قام بهذا التصرف ولكن قال له: أعلمُ أنك تريد أن تكرمني ولكنك بهذا تُغضبني.
كان يتعامل مع مخالفيه بحلم ويصفح عنهم سريعاً حينما يعدلون عن رأيهم ويعودون إلى رأيه، يطبق خلق التغافل مع المخطئين، كان خير من يمثل جهته التي يعمل بها حينما يكلف بأي مهمة محلية أو دولية، يفرض نفسه بشخصيته وبفكره وبأخلاقه.
عقد من الزمان عملت معه لم أجده يوماً فارغاً، حتى وإن كان في لحظات الانتظار تجده رحمه الله ممسكاً لكتاب نافع.
عقد من الزمان معه لم يذكر أحداً بسوء بل كان ينهى ويزجر من يذكر أحدا بسوء في مكتبه مهما كانت منزلته، حتى وإن كنا في رحلة خلوية أو وليمــة مسائية وارتفعت الرسميات واسترسل الحضور في الحديث كان لا يتهاون في هذا الأمر، وأصدقكم القول بأنه أول شخص رأيته يمارس هذا الهدي النبوي أمامي.
تبوء محاولات من معه بالفشل لمسابقته في الصـــف الأول في المسجد بل وتحديدا في التيامن عن الإمام، يحرص على أن يكون متوضئاً قبل الصلاة بوقت طويل، تسلل إلي هاجس بأنه ربما هذا السلوك في المكتب وأثناء الدوام فقط كحال البعض، ولكني شاهدته يطبق هذا السلوك حتى في مسجد حيه، بل إنه يسبق الجميع حتى في مسجد حينا الذي هو بعيد عن مسكنه ولكنه يقع في الطريق لبيوت كبار سن كان يعودهم ويصلهم كل حين وفي طريق ذهابه أو عودته يقف مبكراً للصلاة فيه.
كان يدعو إلى المبادرة للأعمال الخيرية التي تطرحها القوات المسلحة ممثلة في إدارة الشؤون الدينية، وتأتي على شكل تعاميم يكون مصيرها الحفظ لدى بعض الإدارات، ولكن هو كان يمسكها في مكتبه ويبدأ في حث العاملين معه على المشاركة فيها ولا يعيدها لمصدرها إلا وقد مررها على الجميع وقد شاركوا فيها .
كان محباً للعلم وأهله وتفاجأنا بأنه كان منتسباً لجامعة الإمام محمد بن سعود بلا علم أحد رغم أنه حاصل على المستويات العليا في تخصص الطيران. ولكن حبه للعلم لم يتوقف. لم تكن هنا المفاجأة بل حتى بعد إنهائه الدراسة الجامعية التحق بدراسة الماجستير في جامعة الملك سعود وأنهاها بتفوق، وعانى كثيراً من التوفيق بين دراسته وعمله وحياته الاجتماعية، ولكن هيهات أن يتوقف فلديه همة عالية وطموح لا يتوقف.
كان فعلا يحب عمل الخبيئة في أعماله، ولا تعلم عن عمله للخير إلا من خلال مصدر آخر، يقدر الله لك أن تعلم بأن خالداً قد قام بهذا العمل الخيري أو أنه مؤسس له أو داعم له.
كان يبهر المدربين في الدورات التدريبية التي أحضرها معه سواء عرباً أو أجانب، كان يبهرهم بذكائه وفطنته وحدة ثقافته، حتى في تمارين الذكاء ودقة الملاحظة كان أول من ينهي التمرين بنجاح، كانت أسئلته ومداخلاته تثري الدورة.
لقد أوردت ما يحضرني عن هذه الشخصية الفذة وحسبك من القلادة ما أحاط بالعنق.
فرحمك الله أبا عبدالله وغفر الله لك وتجاوز عنك وأنزلك في الفردوس الأعلى وجبر الله أهلك وذويك في مصيبتهم