د.أحمد بن عثمان التويجري
في صبيحة يوم الأربعاء الموافق غرة جمادى الأولى توفي علم من أعلام المملكة العربية السعودية ووجيه من كبار وجهائها، ومفكر بارز من مفكري الأمتين العربية والإسلامية، هو الأخ والصديق العزيز العالم والأديب الدكتور راشد بن عبدالعزيز المبارك -رحمه الله رحمة واسعة وأسكنه الفردوس الأعلى-. كان نبيلاً من نبلاء العرب، وأديباً وشاعراً ومفكراً من الطراز الرفيع، جمع بين العلم والثقافة الواسعة والذاكرة القوية، ومختاراته الشعرية، التي طالما طالبته بنشرها وكان يحفظها عن ظهر قلب، تفوق وتبز كل ما اطلعت عليه من مختارات شعرية سواء أكانت من قديم الشعر أم من حديثه.
كان كريماً مضيافاً صاحب نخوة وشهامة، لا أعلم أن أحداً طلب منه شيئاً فضاق به أو أنه استُنجد به فلم يهب للنجدة.. كان وطنياً حرّاً ناصحاً مخلصاً مطالباً بالإصلاح في السر والعلن. كانت له رؤىً مبتكرة في الفلسفة والأدب والفنون. كان بعضها صادماً لمن لم يعرفه ويعرف منطلقاته حق المعرفة. كان دقيقاً في ملاحظاته واستدراكاته، وكان يجمع بين المقاييس العلمية المنضبطة وبين الذائقتين الأدبية والفنية الرفيعتين، وقد ساعده علمه الواسع بالعلوم التطبيقية وبخاصة علم كيمياء الكم على استيعاب الفلسفة والمنطق استيعاباً عميقاً تجلى في كثير من أطروحاته ومجادلاته.
كانت أسئلته تفتّح آفاقاً من التأمل والتدبر، وكان يستمتع بما تحققه من استثارة للتفكير وما تبعثه من حوارات ومجادلات أكثر من حرصه على تلقي إجابات لها. كان على صلة بفئات كثيرة من الناس بدءاً من رموز القيادة السياسية في المملكة العربية السعودية ودول الخليج وانتهاء بالبسطاء الذين كانوا بحاجة لنخوته وشهامته، وقد مكنته صلاته القوية بأصحاب القرار من تقديم العون لكثير من المحتاجين والمرضى وطالبي العلم وغيرهم. كان كذلك على صلة قوية بكثير من رموز العلم والفكر والسياسة في العالم العربي، ولطالما حل كثير منهم ضيوفاً عليه في داره العامرة بالرياض سواء في ندوته الشهيرة المعروفة باسم الأحدية، أم في مناسبات خاصة أقامها لهم وجمع لهم فيها وجوه المجتمع السعودي.
كان إنساناً بكل ما تحمله الكلمة من معان، يتألم لمعاناة الضعفاء، ويحمل هموم المصابين، ويحترق لقضايا الأمة، كان لا يهدأ له بال حتى يبادر بالإسهام لفعل شيء ينصر به الضعيف ويواسي المصاب وينافح به عن أمتة وينصر قضاياها.
لقد فقدت المملكة عالماً من علمائها ووجيهاً من وجهائها، وفقدت الأمة علماً ومفكراً كبيراً وأديباً مبدعاً، وما أعظم فقد الأفذاذ وما أشد وقع غيابهم، رحم الله الدكتور راشد رحمة واسعة وبدل سيئاته حسنات وأنزله منازل الصديقين والشهداء والصالحين، وأحسن عزاءنا جميعاً وعزاء الوطن والأمة فيه.. و إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ .
يَا حَادِيَ الرَّكْبِ لا تَعْجَلْ لِمَ العَجَلُ؟
هضوِّنْ عَلَيْكَ فَقَدْ سُدَّتْ هُنَا السُّبُلُ
لَمْ تَبْقَ بَعْدَ أبِي بَسَّامَ قَافِيَةٌ
وَلَا حُدَاءٌ وَلَا دَرْبٌ وَمُرْتَحَلُ
وَلَا مَلَذَّاتُ في عَيشٍ وَلَا مُتَعٌ
وَلَا نَدِيٌّ بِقِدْحِ الفِكرِ يَشْتَعِلُ
قَدْ أَقْفَرَتْ كُلُّ أّفْيَاءِ الهَوَى وَذَوَتْ
أَغْصّانُهُ وانْزّوّى عّنْ لَحْنِهِ الغَزَلُ
وَغِيضَ نَبْعُ النَدّى مُذْ شُقَّ مُلْحَدُهُ
وَالمَكرُمَاتُ طَوَاهَا بَعْدَهُ الأجَلُ
يَا سَيِّدَاً كَانَ فِي الأفْلاكِ مَسْكَنُهُ
وَكَمْ أَفَاقَ عَلَى إشْرَاقِهِ زُحَلُ
مَنْ لِلمَكَارِمِ إنْ عَزَّتْ مَوَارِدُهَا
وَلِلكِرَامِ إذا أَعْيَتُهُمُ الحِيَلُ
وَمَنْ لِقَافِيَةٍ تَشْتَاقُ شَارِدَةً
مِنَ القَصيدِ بِجَفْنِ النَّجْمِ تَكتَحِلُ
وَمَنْ بِحَالِكَةْ يَهْدِي السُّرَاةَ إذَا
يَوَمًاً تَشَابَهَتْ الأقوَالُ وَالنِّحَلُ
يَاسَيَّدَ الشِّعْرِ قُلْ لِي أَيُّ قَاِفَيةٍ
تَسْطِيعُ حَمْلَ شُجُونِي وَهْىَ تَنْهَمِلُ
رَحَلْتَ يَا سَيَّدَ العُشَّاقِ فَارْتَحَلَتْ
قَوَافِلٌ لِلهَوَى وَقُلُوبٌ فِيكَ تُخْتَزَلُ
مَلأتَهَا بِهَواكَ العَذْبَ مُذْ رَشِفَتْ
مِنْكَ الهَوَى وَسَقاهَا كأسُكَ الثَّمِلُ
فَلَا تَلُمْهَا إذا ضَاقَ الوُجُودُ بِهَا
مَنْ ذَا يَلُومُ قُلُوبَاً هَدَّهَا الثَّكَلُ
يَا سَيِّدِي وَفُؤَادِي اليَوْمَ مُنْصَدِعٌ
وَالشَّوْقُ يُورِدُهُ مَا لَيْسَ يَحْتَمِلُ
رَحَلتَ عَنَّا وَلَيْلُ الجَهْلِ يُوِحشُنَا
وَدَاحِسٌ فِي الحِمَى وَالعُرْبُ تَقْتَتِلُ
بَغدَادُ بَغدَادُ لَمْ يَبْقَ الرَّشِيدُ بِهَا
وَلَا الرَّشَادُ وَهَدَّتْ صَرْحَهَا العِلَلُ
وَالشَّامُ ما عَادَ فِيهَا لَيْتَهُ عُمَرٌ
إِذْ خَانَهَا الفُرْسُ وَيْحَ الفُرْسِ مَا فَعَلُوا
وَعِنْدَ بَلقَيْسَ أَفَّاكٌ وَمُخْتَلِسٌ
وَحِمْيَرٌ مَجْدُهَا يَغْتَالُهً ثُعَلُ
وَفِي الكِنّانَةِ يَا لَلْعَارِ مَخْمَصَةٌ
لِلهِ مَا فِي سَوَاقِي النِّيلِ يَعْتَمِلُ
يَاَ سَيِّدِي يَا شَجَيَّ الحَرْفِ يَا أَلَقَاً
أَنَارَنَا حِيَن غَابَ النُّوُرُ وّالأّمّلُ
مَا زِلتَ فِي كُلِّ فِكْرٍ مُوقِدَاً قَبَسَاً
يَجْلُو الرًّؤى وَلَهُ كَمْ يُشْرِقُ الجَدَلُ
وَلَمْ تَزَلْ في شَغَافٍ أنْتَ بَهْجَتُهَا
فِيهَا شَرَابٌ لِذِكرَانَا وَمُغْتَسَلُ
لَا لَنْ تّغِيبَ وَلَنْ يَنْسَاَك مَنْ مُلِئَتْ
قُلُوبُهُمْ بِالجَوَى حَتَّى وَإنْ شُغِلُوا
وَسَوْفَ تَبْقَى وَتَبْقَى فِي الدُّنَا شَجَنَاً
مَهْمَا أغَابَكَ فِي أَحْشِائِهِ طَلَلُ