د. فهد صالح عبدالله السلطان
تحدثنا في المقالين السابقين وبلغة الأرقام عن ميولنا الاجتماعية نحو الاستهلاك الترفي على حساب الترشيد والادخار. وبينا من خلال الأرقام أننا كمجتمع نتربع على قمة المجتمعات العالمية في التبذير والاستهلاك الترفي واستنزاف مدخراتنا كأفراد ومجتمع.
وإن ذلك مناقض للنهج الحضاري ومنافٍ للدين وللاقتصاد وللأعراف. لأن الأصل في العبد المخلوق هو العمل والإنتاج وعمارة الأرض لا الاستهلاك والترف.
ويبقى السؤال القائم ما هي الأسباب وراء هذا السلوك غير الحضاري وكيف يمكن معالجته؟
أما الأسباب فهي كثيرة ويبدو أنها ترجع في الأصل إلى إرثنا الحضاري ولأننا حديثو عهد بفاقة, وبالتالي أصبح الميسور يتفاخر بالانفاق والمظهر والترف الذي يبين للآخر غناه وترفه.
وأذكر أن أحد زملاء الدراسة من الأفارقة في جامعة بتسبرغ ذكر في مادة الاقتصاد أن بعض المجتمعات الافريقية تنظر إلى كبر حجم كرش الرجل بشيء من الاعجاب والتبجيل وأن ذلك أمر مرغوب ومحل مفاخرة وانجذاب النساء إليه لأنه دلالة على غناه وتوفر الزاد لديه. وبالنسبة لنا فلا غرابة في ذلك لأننا نتفاخر في سعة صحون الأكل. وبين ذلك وكبر الكرش قرابة في المعنى وفي المضمون.
على كل حال وبصرف النظر عن الأسباب فإن معالجة هذا السلوك وإعادة النظر في إدارة مواردنا الطبيعية المحدودة أصبح ضرورة لا خيار وهو مطلب ديني وطني.
اعتقد أنه حان الوقت للوقوف بقوة ضد النهج الاستهلاكي الترفي الذي يطغى على سلوكنا الاقتصادي والذي يفضي الى استنزاف الموارد الطبيعية المحدودة.
حان الوقت لتبني برامج توعوية اجتماعية ومناهج تربوية لنبذ الاسراف والتبذير، وتأصيل قيم الترشيد والادخار وحفظ النعم وحب العمل والانتاج وصولا الى بناء مجتمع منتج وتنمية مستدامة.
وهنا فإن المسؤولية تقع على عاتق الفرد والمجتمع ورجال الدين والحكومة معاً.
وحرصاً على مستقبل الأجيال القادمة وتلافياً للتنظير فإنني أرى أن الأمر يتطلب قيام الاطراف المعنية التالية بدورها وفقا لما يلي:
1- الخطاب الديني: التوعية عبر خطب الجمعة وغيرها من المناسبات الدينية بنبذ السلوك الاجتماعي الذي يجل الترف والمفاخرة في المأكل والملبس والمركب والمسكن، ومخافة الله في ذلك.
2- التربية والتعليم: صياغة مناهج تعليمية وتربوية تؤصل لدى النشء مبادئ حب العمل والانتاج ونبذ الترف, والتفاخر بالابداع بدلا من التباهي بالاستهلاك.
3- الأفراد: التوعية بتغليب نهج الادخار على حساب الاستهلاك الترفي والأخذ بالمنهج الرباني الذي ينبذ التبذير والاسراف فالله سبحانه {لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ}.
إذا كنت في نعمة فارعها فإن المعاصي تزيل النعم.
4- الحكومة: اتخاذ خطوات عملية وجادة للتحول من الاقتصاد الاستهلاكي الترفي إلى الاقتصاد الانتاجي والاستثماري. ولنا في خطة يوسف الاقتصادية عليه الاسلام قدوة حسنة.
وباختصار، فإن الأمر يتطلب انشاء برنامج شامل يتضمن وضع سياسات واجراءات محددة ووضع خطة عملية لتحقيق ذلك تتضمن مسارات تربوية وتوعوية ونظامية لتحقيق هذا الهدف الاستراتيجي، وتحديد مسؤولية الاطراف الأربعة في تنفيذها.
آمل أن يجد هذا الموضوع مكانه كأحد الملفات الاساسية على طاولة المجلس الاعلى للشئون الاقتصادية والتنمية الذي أمر بتأسيسه خادم الحرمين الملك سلمان حفظه الله. لعلنا نرى ونعيش اليوم الذي يحقق فيه مجتمعنا مراكز متقدمة في الانتاج والابداع لا في الاستهلاك والتبذير.
والله الهادي الى سواء السبيل..