د. فهد صالح عبدالله السلطان
كتبت عدة مقالات عن الميول الاستهلاكية لمجتمعنا وضرورة العمل بشكل سريع وجاد على معالجة المعضلة وتأصيل الاقتصاد الإنتاجي والسلوك الادخاري للمجتمع، بدلاً من الاستهلاك الترفي الذي يتنافى مع تعاليم ديننا ومع مصالحنا الاقتصادية الوطنية.. وقد تلقيت اتصالات عدة حول الموضوع تتفق على أهمية الموضوع وضرورة تعزيز التوعية الاجتماعية.
وحتى يكون الطرح والتحليل موضوعياً، فقد حاولت أن أقوم ببعض الجهد البحثي للوقوف على بعض الأرقام الإحصائية عن حجم استهلاك الفرد في السعودية مقارنة بالمعدلات العالمية.
لا يمكن أن يتصور المرء ظاهرة الميول الاستهلاكية التبذيرية التي يعيشها المجتمع.. ومن لديه تساؤل حول ذلك فما عليه سوى مراجعة الحقائق والأرقام الإحصائية والتي تؤكد أن المواطن السعودي يتربع على أعلى معدلات الاستهلاك العالمي من الماء والكهرباء والبنزين والمأكل والملبس والمركب والبذخ السياحي والإنفاق على الحفلات وغيرها... إلخ..
وبداية أعترف بأن الأرقام مزعجة.. وأعتذر للقارئ عما قد تسببه له من ألم.
تشير الإحصاءات إلى أن المواطن السعودي يحتل مركزاً متقدماً جداً في استهلاك الكهرباء والماء، وأن متوسط استهلاك الفرد في السعودية من الطاقة الكهربائية يُعادل تسعة أضعاف متوسط استهلاك الفرد في أكبر أربع دول عربية من حيث عدد السكان، وهي: مصر، الجزائر، السودان، والمغرب، حيث بلغ متوسط استهلاك الفرد من الكهرباء في السعودية 8.161 كيلو واط في الساعة مقارنة بـ 951 كيلو واط في الساعة (متوسط استهلاك الفرد في أكبر أربع دول عربية).. وبالتالي فإن الحجم الكلي لاستهلاك الأفراد في السعوديه يفوق الحجم الكلي لاستهلاك الأفراد في تلك الدول مجتمعة، رغم أن مجموع سكانها يساوي سبعة أضعاف سكان المملكة.. وعلى المستوى العالمي بلغ متوسط استهلاك الفرد للكهرباء في المملكة ضعف المتوسط العالمي وبمعدل نمو سنوي يصل إلى أكثر من 5%.
في قطاع المياه أيضاً تجاوز استهلاك الفرد في السعودية نسب استهلاك نظيره في الدول الغنية بالموارد المائية بأكثر من 100%، حيث يصل استهلاك الفرد للمياه أكثر من الضعف مقارنة بالدول الأخرى.. وتشير الدلائل الإحصائية إلى أن استهلاك المملكة للمياه في العام الواحد وبحسب الدراسات يُعادل 20 مليار متر مكعب بشتى الاستخدامات، حيث تستهلك المملكة يومياً 2.8 مليون صهريج، 70% منها من غير المصادر الجوفية المتجددة. أما في مجال الوقود، فإن الدلائل الإحصائية تشير إلى أن السعودية تحتل المرتبة الثالثة في آسيا في استهلاك البنزين بعد الصين التي يزيد عدد سكانها على ألف وثلاثمائة وستين مليون نسمة، واليابان البلد الصناعي الذي يبلغ عدد سكانه مائة وثلاثين مليون نسمة.
وفي مجال الترفيه والسياحة، تبين الدراسات المسحية أيضاً بأن السائح السعودي يحتل المرتبة الأولى عالمياً من حيث معدل حجم إنفاقه اليومي على برنامج سياحته الخارجية، وتشير الأرقام الإحصائية إلى أن المجتمع السعودي ينفق ما بين 7 - 10 مليارات دولار (قرابة 40 مليار ريال )على السياحة الخارجية فقط.. والمؤلم في الأمر أن الأرقام الإحصائية تشير إلى أن السائح السعودي احتل المرتبة الأولى عالمياً ليس بالمتعة والسياحة المتحضرة، ولكن بكثرة الإنفاق على الرحلة السياحية الواحدة، حيث يبلغ معدل إنفاق السائح السعودي 6.6 ألف دولار للرحلة الواحدة بما يفوق المعدل العالمي (2.390 دولاراً) بأكثر من 60%.
ومن جانب آخر تبين بعض الأرقام الإحصائية أن معدل تكاليف أفراح الزواج على الاقتصاد الوطني في المملكة تصل إلى 450 ألف ريال للعرس الواحد.. وأعتقد أن الرقم متحفظ جداً، خصوصاً عندما نأخذ في الاعتبار كافة عناصر التكلفة الاقتصادية الكلية للمناسبة بما فيها من ملابس نسائية وأدوات زينة ومستلزمات الفرح وغيرها.
في الواقع فإن مناسباتنا الاجتماعية تستنزف ثروتنا.. ولك أن تتصور بأنه يوجد في جدة لوحدها 360 مولاً أو مجمعاً تجارياً، أي أن العائلة يمكن أن تنهي سنة كاملة دون أن تتمكن من زيارة أو ارتياد كل الأسواق الرئيسة.
والسلوك الاستهلاكي للمجتمع يتمثّل أيضاً في العادات الاجتماعية الأخرى كالمأكل والملبس ومظاهر البذخ والترف والمفاخرة بسعة صحون الأكل (أم رقيبة والمناسبات الاجتماعية الأخرى صورة نموذجية)، واقتناء جديد الزينة والمركب وغيرها.. وبالمناسبة، هذه الحقائق تنطبق بشكل عام على المجتمع الخليجي ككل.
أتمنى أن يحقق مجتمعنا مراكز متقدمة في الإنتاج والإبداع، لا في الاستهلاك والتبذير.. بقي أن نتساءل: أين تعاليم شرعنا؟.. أليس في ديننا أنه سبحانه (لا يحب المسرفين)!.. ثم أليس في ذلك معصية وإساءة حقة لمنهج لنبينا صلى الله عليه وسلم وهديه القويم؟.. بل أين مناهجنا في التربية والتعليم؟.
ماذا لو قال أحدهم إننا آخر من يتبع هديه في هذا المجال، وذلك لتربعنا على قمة المبذرين؟.. ثم كيف نريد هداية البشرية إلى سنة ومنهج قويم لا نلتزم بمبادئه؟.
سلوك اجتماعي يتطلب وقفة جادة.
في المقال القادم سنناقش - إن شاء الله - أسباب ميولنا للاستهلاك على حساب الإنتاج، والحلول المقترحة للحد من هذه المعضلة الاقتصادية.
والله الهادي إلى سواء السبيل.