د. حامد بن مالح الشمري
من طبع الرحيل قسوته على النفس وأشد مرارة حين يكون الراحل أحد الوالدين، وقد لا يعرف الكثير نعمة وجود الأم والأب إلا بعد فقدهم، فما بين استقبالي لهاتف يخبرني بعارض صحي لوالدتي غفر الله لها وأنا بالجزء الجنوبي من وطننا الغالي أدخلت على أثره المستشفى بقيت فيه لساعات محدودة، وقد أكرمني الله أن أكون إلى جانبها مستغنماً تلك الساعات القليلة المتبقية من حياتها.
وقد ألفت عيني منذ طفولتي رؤيتها والاستماع لكلامها من غير ملل وارتواء، حتى فاضت روحها إلى بارئها في ذلك اليوم لترحل من دنيانا الفانية إلى الدار الباقية. وكم جاهدت نفسي تلك الساعات ما بين حزن يعتصر قلبي وعين لم ترتو من لذة النظر إلى وجهها. ورحلت ورحل معها إحساسي شوقاً ودعاءً ورجاءً للباري، بأن تجمعنا بها وبوالدي من قبلها رحمهما الله في جنات الخلود، فهما أغلى الناس على قلبي، نشأنا وتربينا وتعلمنا على أيديهما القدوة الصالحة والصبر والعزيمة والحكمة والكفاح في دروب الحياة.
وعادت بي الخطى ثقيلة ومتكسرة بعد أن واريتها الثرى، وطاف بخاطري حنين الذكريات التي يستعصي على الزمان محوها من فكري فحنان الأم على ابنائها وبناتها وخوفها عليهم لم يتوقف على مدى سنوات عمرها، هي دائمة السؤال عنهم وعن صغيرهم وكبيرهم بعيدهم وقريبهم، وهي تدرك أنها من ساهمت في تعليمنا الصبر والشدائد، وتعلم أن قلبها النابض بالحب والخير أتعبه حب ضناها الذين ابعدت البعض منهم خدمة الوطن في مناطق ومدن بعيدة عنها، وتحلم أن تراهم وأولادهم في أعمال ومدارس ومنازل قريبين منها وبلدتنا التي عاشت عمرها فيها وأحبتها ولا ترغب الابتعاد عنها، ولكن يا أماه هي الحياة يعيش فيها الإنسان في كبد، ونستسمحك يا أماه في عدم تحقيق ما تبقى من أمنياتك، ونسأل الله أن يجمعنا بك وبوالدنا في دار الآخرة، وعذراً يا أماه فأنت من تعلمين الصبر، وتحمل قلبك ونحن (أنا وثلاثة من أشقائي) في سن الثالثة عشرة، فقريتنا وما حولها من القرى بمنطقة حائل لا يتوفر فيها آنذاك مدارس متوسطة وثانوية مما دفع بوالدي رحمه الله لشراء قطعة أرض لا تتجاوز مساحتها مائة وخمسين متراً بمدينة حائل التي تبعد عن قريتنا «النعي» قرابة الثمانين كيلاً، أقام عليها عدداً محدوداً من الغرف الشعبية حرصاً منه رحمه الله على تعليمنا، وكان هو من يتابعنا ويوجهنا ويشجعنا، بما يملك من عزيمة ورؤية «أب» مدرك لعواقب الأمور ويحرص على المكوث معنا بعض أيام الأسبوع، وأنت أيتها الغالية من تتولين رعاية بقية أفراد أسرتنا في القرية (سبعة ذكور وأربع أناث) ونجتمع في عطلة الاسبوع وأحياناً كل أسبوعين ومع هذا لا توجد وسائل اتصال وغير ذلك من الظروف والامكانيات المحدودة في ذلك الوقت حتى أن والدتي يرحمها الله روت لنا كيف أنهم كانوا يقطعون تلك المسافات الطويلة سيراً على الأقدام الحافية لجلب ما يحتاجون إليه من أطعمة ومؤن، وتحملوا في سبيل ذلك ظروف ومخاطر الحياة القاسية.
أماه سيفتقد ابناؤك وبناتك وجيرانك سؤالك الدائم عنهم وسنفقد أمنا «الجامعة» للكل وستبقى كلماتك تتردد على مسامعنا وقلوبنا عند كل زيارة واتصال بك وستبقى صورتك وقلبك النقي في أذهانهم وصلواتهم ودعواتهم. ولعلي حين أنشر هذه الخواطر التي هي جزء من خصوصيتي، قد لا تهم القارئ العام بشكل مباشر، إلا أنني حرصت على القول بأن وجود الأب والأم في حياة الأبناء هو أثمن وأعظم نعمة بالحياة.
ويا من تأخذك المشاغل عنهم أو تغويك الأهواء عن برهم، عليك باغتنام كل الدقائق والثواني لتسعد برضاهم وبرهم؛ فهم سر التوفيق والسعادة في الحياة بعد رضى الرحمن. لا تعطي فرصة للوقت بأن يثير أشجان الندم في داخلك بعد رحيلهم بسبب تقصير. لو يعرف الأبناء ثمن وجود الوالدين بعد رحيلهم لما انشغلوا عنهم طرفة عين.
أمنية أرجوها لكل إنسان أن يضع حب الوالدين ورضاهم بعد حب الله ورسوله مباشرة، واجتهد في برهم والقرب منهم فهم ضياء الدنيا، استشعر هذه الحقيقة وهم إلى جانبك. نسأل الله أن يرحم الأموات ويحفظ الآباء والأمهات لأبنائهم وذريتهم.
اللهم يا أكرم الأكرمين ويا أرحم الراحمين اغفر لوالدتي وثبتها وارحمها وأكرم نزلها ونقها من الذنوب والخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس، ومن قبلها والدي رحمه الله رحمةً واسعة، واجمعنا بهما في جنة الفردوس واجعل قبور موتانا وموتى المسلمين روضة من رياض الجنة يا أرحم الراحمين.