د. محمد بن عبد الله المشوح
اتصلت بأبي بسام قبيل مساء الثلاثاء 7-1-1426هـ بعشرة أيام وقدمت بين يديه دعوة الثلوثية له لتكريمه والاحتفاء به والاستماع إلى تجربته المتميزة الثرية في العلم والفكر والأدب والثقافة.
حاول التنصل من هذا الوسم الذي قدمته وهو التكريم، وقال لا مانع أن يكون حديثاً ثقافياً سوف أشعرك بعنوانه لاحقاً.
تهلل وجهي بهجة من الفرح والسرور أن ظفرت بموافقته مهما كانت شروطها ومسمياتها لعلمي اليقيني بأنه بعيد كل البعد عن مباهج الاحتفاء وزهده الصادق عن الأضواء إلا ما كان مفيداً.
انتظرت بلهف اتصاله بعد أيام وأخبرني حينها أنه سوف يتحدث عن موضوع اسمه «هل العقل شاهد زور» عنوان مثير وجذاب ورائق من مفكر يحسن اختيار فكرته وموضوعه.
فكانت بحق ليلة راشدة ومباركة من راشد المبارك الذي كأنما خلق الاسم له فحسب.
اصطف له في تلك الليلة حضور ثقافي مميز من محبيه ومريديه وعاشقي فكرة الراقي الراشد حلَّق خلالها في فضاءات الفلسفة والفكر فبهر الحضور وأبهج وأسعد مستمعيه.
وكان مما قاله لا تجمع معاجم اللغات العربية والإنكليزية على تعريف واحد محدد للعقل وربما لا نجد إجماعاً في معاجم اللغات الأخرى، على أن تعريفات المعاجم متقاربة في معناها. إن شيئاً ما ليس واضحاً لدى الناس وضوح العقل في وظيفته وخافياً خفاء تاماً في طبيعته وماهيته، وقد تساءل أحد المفكرين قائلاً (أيها العقل من رآك؟) ونعرف العقل هنا بأنه (ملكة الإدراك والتمييز بين الخطأ والصواب) وقبل الحديث عن العقل هناك أمور جديرة بالملاحظة نحوه يأتي إيرادها هنا لا لأنها تخفى على أحد ولكن من باب التذكير بها واستدعاء لحضورها عند الحديث عنه.
أول هذه الأمور: أن العقل أثمن جوهرة وهبها الله للإنسان وأنه ميزته الأولى على بقية الأحياء سواه.
الثاني: أن أحداً لا يعدل نعم الحياة جميعها مثل صحة البدن وامتلاك الثروة وعلو المكانة وبريق السلطان بنعمة العقل. ذلك أنه لو سلبت منه هذه النعمة لفقد النعم الأخرى جمعياً لو كانت متوافرة لديه.
الثالث: أن البشر لم يتفقوا على شيء كما اتفقوا على الرضا والقناعة بما أوتوا من نصيب العقل مهما كان قليلاً أو ضعيفاً أو عاجزاً، والبشر المغرمون بالتنافس أو الاقتتال على مغانم الحياة الأخرى كالثروة والمكانة والسلطان لشعورهم بالحاجة إلى المزيد منها لم يتنازعوا أو يتقاتلوا لانتزاع مزيد من العقول لهم من الآخرين، فالعقل هو الاستثناء الوحيد الذي لم يطلب أحد مزيداً منه ولم ينازعه أحد عليه.
الرابع: مع أن مدلول العقل يتراءى واضحاً في أذهان الناس فإنهم يجدون أنفسهم في حيرة لو طلب منهم تعريف وتحديد طبيعته وحدوده وماهيته.
في أي حديث عن العقل أو بحث في طبيعته يعترض الباحث إشكال يتعذر أو يتعسر حله يبرز بإلحاح في هذا المجال، وكان مما يجب أن يكون أول شيء يبحث وهو طبيعة العقل وماهيته.
لعل أبا الوليد ابن رشد أكثر من اهتم بهذا الأمر وتحدث عنه وناقش آراء الفلاسفة قبله وانتقدها، برز هذا الإشكال لديه عندما درس النفس، وهو يرى كما ذهب أرسطو إلى عدم مفارقتها للبدن وأنها كمال له وتعبير عن ماهيته، فالبدن نفس بالقوة وأفعاله من حركة وإحساس ومعارف مرتبط بها، ولكن إذا كانت النفس بكل قواها كمالاً للبدن فما الذي يجعل العقل مميزاً عن هذه القوى، ما الذي يميزه عن القوى المعرفية والنفسية مع أن فعل العقل لا ينفصل عن الواقع عن طريق البدن وإن كان في عمله الذاتي غير محتاج إليه.
رفض ابن رشد القول بمادية العقل أي امتزاجه من عدة عناصر، كما رفض القول بالمثالية المطلقة التي حمل لواءها أفلاطون وحاول أن يعالج هذه القضية من طريق آخر، فهو أولاً يرى أن العقل لابد أن يكون فاقداً للمدرك وإلا لما أدركه، فالهواء لا يحمل الروائح لو كان ذا رائحة وكذلك العقل فهو بهذا المعنى مفارق للبدن، هذه المفارقة هي التي تجعله حراً يعرف سائر الأشياء، فماهيته - إذن - قدرة على الوجود بالقوة في كل المدركات وفي كل العقول الفردية، وشمول معرفة العقل ناتج من كونه لا مادة إذ المادة تحديد للمعرفة وعائق لها، إلا أن هذا الأمر يدخل في إشكال آخر وهو استحالة تصور أن يكون العقل قوة مجردة غير مستندة إلى موضوع.
للخروج من هذا الإشكال رأى ابن رشد في بداية محاولاته أن النفس هي موضوع العقل ولكنه عدل عن ذلك للخروج من الإشكال السابق الذي يحيل العقل إلى صلته بالمادة طالما أن النفس غير منفصلة عن البدن وذلك يبطل تسامي العقل، لذلك لجأ إلى حل آخر وهو تصور ما أسماه (المادة العاقلة) وجعل هذه المادة موضوع العقل أي حاملته، وهذا كما هو ظاهر نوع جديد من الوجود تصور إضافته إلى المادة المحسوسة.
يأتي بعد ذلك السؤال المهم الثاني الذي يجب أن يسبق البحث في قدرة العقل كما فعل جون لوك أو البحث في المجال المشروع لعمله كما زعم إمانويل كانت، هذا السؤال هو عن أي عقل نتحدث؟.
إذا قيل إنه القدرة على التمييز والموازنة بين الخطأ والصواب أو أي شيء مما يشير إلى نشاط العقل أو وظيفة من وظائفه فإن ذلك لا يعطي تعريفاً واحداً موفياً بحدوده وماهيته، والبشر لم يعرفوا بعد تعريفاً يشخص العقل تشخيصاً كافياً ولم يعرفوا تمثلاً للصورة الكاملة منه في موجود بحيث يمكن أن يشار نحوه أو يرجع إليه على أنه الميزان الدقيق للإدراك والتمييز الذي لا يخطئ في الفصل بين الحق والباطل والهداية والضلال. فالعقل بمعناه الكامل تصور لوجود وليس حاصلاً في موجود.
لم تنصب للعقل تماثيل في ميادين المدن وعلى مفترق الطرقات بحيث تراه العين وتلمسه اليد وتتحدث إليه الألسن لو كان هذا التمثال ممن ينطقون، وعلى فرض وجود ذلك فإننا لا نجد من يدلنا عليه. هذا الإشكال أو هذه المعضلة هي التي أدت إلى المباحث المتعلقة بوحدة العقل أو فرديته ووحدة العقل تعني العقل الجمعي بطبيعته التي لا تتأثر بالتاريخ وما ينطوي عليه من جدل وهوى وتشيع لدين أو مذهب أو فلسفة أو فكر من الأفكار، أي العقل المستقل استقلالاً تماماً عن كل المؤثرات فهو عقل نوع الإنسان لا عقل فرد منه أو أفراد، على أن فردية العقل تعني عقل الفرد الواحد، والذي دعا إلى القول بوحدة العقل هو ما سبق أن أشرنا إليه من أشكال وأن هناك عقولاً فردية بقدر ما في الأرض من أمم وجماعات تتباين في أديانها ومذاهبها وفلسفاتها المحددة لنظرتها إلى الكون والحياة، وإذا حدق المتأمل في الجزئيات وجد أن هناك عدداً من العقول بقدر ما في الأرض من البشر لذلك نجد من الغريب حقاً ما ذهب إليه رينيه ديكارت من زعمه أن العقول موزعة بين البشر بالتساوي وأن حظوظهم منه واحدة وأن سبب اختلاف الناس في أديانهم ومعتقداتهم ومذاهبهم وسلوكهم هو في اختلافهم في الاستخدام والاستفادة من هذا النصيب الذي وهب لكل فرد مساوياً لسواه. إن ديكارت لم يدلنا على ذلك العامل الغريب الذي جعل الناس يختلفون هذا الاختلاف في استخدام عقولهم ولم يقل لنا ما هذه القوة التي تلجم العقل وتطلقه وتعينه أو تخذله وتصدقه أو تضله عندما يحكم على الناس والأشياء والمذاهب والأفكار، وإذا ما كان هذا العامل أو القوة شيئاً خارجاً عن العقل أم هو جزء منه، ولا يجوز هنا أن يعترض على هذا الإشكال من ناحية أنه ينسحب على مدركات أخرى مثل الحق والخير والعدل والجمال التي نتصور مفرداتها في وجود لها ولكننا لا نجدها مكتملة في موجود، إذ ليس هناك تمثل معروف لواحد منها، ذلك أن هذه المدركات مميزة وليست ملكة مميزة وهي ليست ملكة للحكم، ولكن موضوع للحكم.وإذا أخذنا بنظرية أفلاطون عن المثل التي لا وجود لها إلا في التجريد المطلق فإن ذلك لا يساعدنا في الإجابة عن السؤال الذي هو محور المشكلة وهو: هل هناك عقل كامل متفق عليه يمكن أن يكون المرجع والقياس؟.
على أن الإشكال الذي دعا إلى رفض عقل الفرد ممثلاً لوحدة العقل ومعبراً عنه والأخذ بالقول بالوحدة - وهو المطلب الذي يقتضيه صدق المعرفة والوثوق بها مما لا يقوم إلا على أسس موضوعية وكلية وهي وحدة العقل يجعل هذا المطلب يوقع في إشكال آخر لا يقل عن سابقه فهو يجرد الإنسان من أثمن موهبة وهبه الله ويجعله جسداً فقط، إذ لا يجعل لعقل الفرد قيمة في الوصول إلى أي نوع من المعرفة والثقة بها طالما تم الوصول إليها بوسيلة فردية متعددة متباينة، وربما متناقضة ومتغيرة بتغير الأزمنة والأمكنة والأحداث ومن ثم سيكون من المتعذر على العقل الفردي اجتياز الحجب إلى الحقيقة الكلية الموضوعية وهذه معضلة كبرى لم تفلح جهود فلاسفة من ذوي المكانة العالية مثل أفلاطون وأرسطو وأبي الوليد بن رشد في حلها.
هل العقل قدرة بلا حدود، سواء كان الحديث عن العقل في وحدته أو فرديته، يرى أعلام من الفلاسفة مثل ابن رشد وليبنز أن العقل قدرة لا حدود لها، وأنه قادر على حل كل المشاكل والإجابة عن كل الأسئلة، غير أن قراءة وتأمل تاريخ العقل في ماضيه وواقعه في حاضره تظهر خلاف ذلك الزعم، إذ لا يزال هناك من المعضلات ما يجد العقل نفسه بوحدته أو فرديته عاجزاً عن قول أي شيء عنها، ومن ذلك القضايا المتعلقة بما وراء الطبيعة، والكون في بدايته وصيرورته، وكل محاولات الفلسفة وجهد العلم الطبيعي لم يزيحا ستاراً عن هذا المحجوب، وإلى جانب ذلك هناك من القضايا ما يجد العقل نفسه مسوقاً إلى القول فيها بالشيء ونقيضه ومن ذلك ما عرف بنقائض العقل الأربع.هذه القضايا وأمثالها من القضايا الكلية وكثير من الحالات الجزئية والتي يمكن أن يفسر بها سبب اختلاف البشر وانقسامهم في أديانهم ومعتقداتهم ومذاهبهم هي التي أدت إلى هذا التساؤل المشروع عما إذا كان العقل شاهد زور.إذا استثنينا ما هو خارج نطاق المحسوس مما لا يشاهد أو يجرب وهو ما يقبل الإنسان قضاياه ويطمئن إليها بدافع ميل القلب وارتياحه لا بإلزام العقل نجد أن الأديان والفرق المنضوية تحتها والمذاهب السياسية والاجتماعية والتوجهات الاقتصادية والفلسفية وجميع الأفكار الأخرى يدافع عنها أصحابها دفاعاً عقلياً، يقدمون بين أيديهم ما يتراءى لهم حججاً عقلية للدفاع عن تلك المذاهب والمعتقدات، تستنجد كل فئة منهم بشهود تستدعيهم من ساحة العقل، ولم يعرف تاريخ البشر أن فئة أو جماعة أعلنت أن مذهبها أو معتقدها أو فلسفتها جاء أو جاءت مخالفة لمقتضيات العقل وشروطه، وهذا أمر لم يجد البشر له حلاً، والانصراف عن مزيد من المحاولة لحل هذا اللغز وعدم الانشغال به يحمل دلالة ضمنية على اليأس من الوصول إلى حل لهذه المشكلة، وأقرب الطرق لفهم هذا الأمروتفسيره لا نجده إلا في القول بالاختلاف الحقيقي في ما وهب الأفراد والشعوب من نصيب من هذه الموهبة خلافاً لما ظنه رينيه ديكارت، إذ بدون هذا الاحتمال يبقى الإنسان في نفق لا يلوح فيه شعاع لفهم هذه الظاهرة.
على أن ذلك لا يعني أن هذا الاختلاف ذا المنشأ العقلي حدث بسبب اختلاف نصيب كل فرد من العقل مجرداً من عوامل أخرى تؤثر فيه كما تؤثر في توجهه ومساحة عمله وقدرته على العمل، هذه العوامل هي ما يحيط بالفرد في مجتمعه وبيئته من تعليم وعادات وقيم وإلف، وما يتركه هذا الإلف على صفحة العقل من قتامة أو تشويه شبيهة بما تتركه أمراض العين على عدستها من عتامة أو على تكوينها من تغيرات.
العرض الموجز لهذه التأملات القليلة عن ماهية العقل وقدرته وما أظهر من نقصه عن كمال وعجز عن اجتياز بعض الحواجز لا يجيز إسقاط العقل من مكانه بل لا يجيز التقليل من منزلته.. والجهود التي بذلت لإسقاط العقل أو الزراية عليه لم تسفر إلا عن زراية بأصحابها وعن كونها دلالة على رحابة أفق العقل واتساعه للنقد والمحاورة. العقل لا يجد حرجاً في أن يجد نفسه في حلبة نزاع أو صراع، وهذا أمر لا يخلو من الدلالة على ثقته بطبيعته، فهو لا يمدح أو يذم إلا بوسيلة من وسائله، والمرافعات الحادة التي قام بها رجال من أمثال منتانييه وباسكال من رجال اللاهوت وجان جاك روسه من رجال الاجتماع وآلاف المرافعات التي انطلقت من عباءات الكهنوت ما استطاعت أن تزحزح العقل عن العرش الذي تربع عليه منذ عرف للبشر تاريخ وإن كان ما تقدم أمثلة على أن العقل يمكن أن يجرد من نفسه من يكون شاهداً عليه.
ماذا سيكون حال البشر لو فقد العقل مكانته، هل ستبقى هناك ومضة من شعاع تضيء في تراكم الظلمة، لا شك أن الأديان السماوية شعاع ساطع يهدي في الظلمات ولكن الأديان رسالات إلى العقل نفسه، أنه المتلقي لهذه الرسالات وهو موضع المخاطبة والمحاورة والمحاسبة، ولو ذهب العقل لما بقي المتلقي.. إنه - أي العقل - موضع خطاب الأديان ومنبع فيض الفلسفة وحقل نبات الأفكار، وهذه التأملات تجعلنا في موضع أفضل لفهم دلالات بعض ما جاء في القرآن من مثل قوله تعالى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ...} وقوله {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء..}، بعد إشارة الآيتين إلى ما يشير للأرض والنبات والحيوان والإنسان.
لقد عاش- رحمه الله- حفيا بعقله الذي يمتلئ نبلاً وقيماً لا يسعه تجاوزها، يسعى لنشر ثقافة التسامح مهما بعدت شقة الخلاف؛ ليقينه أن التوافق المطلق متعذر، فكان ينثر ثقافته تلك ليس في النخب فحسب بل حتى في أوساط المسؤولين الذي يتقن بعقله الراشد كيف يتعامل معها.
أجل عاش راشد المبارك لا لشيء سوى الود وإشاعة روح الفكر في عقولنا الممنوحة كي لا تبقى مغلقة مجروحة يدعو إلى أحديته الشهيرة التي قاربت ثلث قرن وما زلنا نستلهم منها نحن ذوي المنتديات والصالونات الجميع حتى من يختلف معهم فكان نبراساً للجميع ورشاداً لنا يبارك الخطوة ويدمح الزلة والهفوة.
رحم الله راشد المبارك وغفر له وأسكنه فسيح جناته وألهم أهله وذويه الصبر والسلوان والحمد لله على قضائه وقدره.