في حدود عام 1353هـ بدأت مشاغبات شيخنا العلامة محمد بن ناصر العبودي مع القلم.
فكان إن اطلع على نسخة معارة نادرة آنذاك من كتاب الأديب الشهير أحمد الهاشمي «جواهر الأدب» وراق له حينذاك حسن تبويبه وتنوع معلوماته وحسن اختياراته.
وكانت تلك النسخة تكاد تكون الوحيدة في بريدة واطلع عليها عنده أستاذه الذي يعلمه مبادئ القراءة والكتابة المعلم الشيخ محمد بن صالح الوهيبي-رحمه الله-.
وطلب التلميذ آنذاك محمد العبودي من استاذه أن يعيره تلك النسخة النادرة فاشترط الأستاذ على التلميذ أن تكون الإعارة يوم الجمعة وأن تكون الإعادة يوم السبت فوافق وشغل ذلك التلميذ المتوقد ذكاء وشغفاً بالتأليف من سنيات شبابه بل من طفولته بنسخ ما امكنه من كتاب « جواهر الأدب» وكانت تلك النسوخ العجلى معجلة لفكرة انتابت ذلكم الفتى وهي أن يكتب على منواله وطريقته.
فكان أن جمع وكتب وريقات مبوبة ومصنفة أسماها أنيس الجليس فيما تزول بذكره الهواجيس» كانت وريقات قلائل حوت بعضاً من الألغاز والأمثال.
لم تقف همة ذلكم الشاب المتوقد همة وحماساً علمياً، ليعقب ذلك بسنوات بكتاب رائع مميز أكثر دقة وعلماً هو الأول من نوعه وطريقته وترتيبه وهو أول معاجمه التي أصبحت اليوم أحد سمات شيخنا العلمية ورياداته بعد الرحلات.
ذلكم هو كتاب « الأمثال العامية في نجد» المطبوع في القاهرة في مطبعة دار إحياء الكتب العربية سنة 1379هـ الموافق 1959م.
واشتمل على ألف مثل مرتبة على الحروف أي على طريقة المعاجم وحظي بتقديم العلامة حمد الجاسر بهذا النص تقديم الأستاذ البحاثة والشيخ حمد الجاسر عضو مجمع اللغة العربية والعضو المراسل للمجمع العلمي العربي بدمشق والمجمع العلمي العراقي ببغداد وصاحب ومدير صحيفة اليمامة والتي تصدر في الرياض.
وقال عنه «وكتاب الأمثال العامية في نجد يعتبر باكورة طيبة، من بواكير الدراسات الأدبية في قلب جزيرة العرب، هذه البلاد التي لا تزال بحاجة إلى كثير من الدراسات في جميع أوجه مظاهر الحياة العامة لسكانها، من تاريخية واجتماعية وأدبية وغيرها.
وسيدرك القراء ما بذله المؤلف الأستاذ الأديب محمد العبودي من جهد كبير يتبين واضحاً في مادته الغزيرة بحيث احتوى على ما يقارب ألفي مثل، وفي البحث العميق عن أصول تلك الأمثال، وفي مقارنتها بمثيلاتها لدى سكان الأقطار العربية كالشام ومصر، وفي كثرة ما رجع إليه الأستاذ المؤلف من أمهات كتب الأدب العربي، وما استقى منه من مصادر مختلفة».
إلا أن العلامة حمد الجاسر يبدوا أنه تنبأ مبكراً بولادة عالم موسوعي سعودي كبير.
فكان أن سارع إلى حثه وتشجيعه على المضي في مشاريعه وأعماله العلمية الأخرى والمتنوعة.
وقال «ولئن كان من حق المؤلف الكريم على القراء -وهذا من حقه لا ريب- أن يقدروا ما بذله من جهد حق قدره، وأن يستقبلوا هذا الكتاب أحسن استقبال، فإن من حق هؤلاء القراء على المؤلف أن يستنجزوه الوعد بسرعة إصدار القسم الثاني منه، وأن يستحثوا عزيمته لا لاستكمال البحث في موضوع الأمثال فحسب، بل بالاتجاه إلى نواح جديدة أخرى في هذه البلاد بالدراسة والتأليف، لأن هذه الباكورة اليانعة الطيبة التي قدمها الأستاذ العبودي إلى التطلع إلى ثمار شهية ناضجة من دراساته المقبلة».
لقد صدَّر شيخنا العلامة محمد العبودي ذلكم المعجم الأول بحديث علمي مفصل عن الأمثال وفكرة هذا العمل العلمي وهديه فيه.
فكان أن أصدر لاحقاً في خمسة أجزاء الأمثال العامية في نجد ليقدم أكبر وأضخم وأكبر موسوعة عن الأمثال في نجد مع سرد حكاياتها وقصصها.
وطبع من دار اليمامة آنذاك سنة 1399هـ
كمبادرة من دارة الملك عبدالعزيز ودعم وتشجيع مباشر من وزير التعليم العالي ورئيس مجلس إدارة دارة الملك عبدالعزيز آنذاك الشيخ حسن عبدالله آل الشيخ.
وكتب مقدمة تلك الطبعة من كتاب الأمثال قائلاً» فقد كنت أصدرت القسم الأول من كتابي: «الأمثال العامية في نجد» مشتملاً على الف مثل عامي نجدي كنت قد فَرَغْتُ من جمعها وشرحها ووعدت قراء الكتاب بإصدار القسم الثاني مشتملاً على ألف أخرى من الأمثال، وأن ارتب أمثالها في آخر القسم الثاني على الموضوعات بغية تسهيل الاستفادة منها للباحثين.
وقد تأخَّر صدور القسم الثاني التي أشرت إليه، ومع ذلك فقد واصلت البحث في الأمثال فاجتمع لديَّ منها الألوف ولم أكن اقنع بالجمع والتدوين وإنما كنت أبحث عن أصول الأمثال في كتب التراث العربي التي لم يُفَهْرَسْ منها إلا القليل حتى تكوَّن مما جمعته مجلدات عدة وكان منها كتاب «الأمثال العامية في نجد» وهو هذا، ويشتمل على ثلاثة آلاف مثل مرتبة على الحروف أدخلت فيها الأمثال الألف التي تضمنها القسم الأول المطبوع بعد أن أضفت إليها من الإضافات والشَّواهد والاستدراكات ما يكاد يجعلها جديدة على القارئ ثم رتبت الآلاف الثلاثة المذكورة في هذا الكتاب على الموضوعات ليسهل الأمر على من يريد البحث عن الأمثال العامية التي تخص موضوعاً معيناً كالمرأة والزواج أو الحيوانات والسباع، أو الموت والحياة أو الحرب والسلم.
وشّرَحْتُ الأمثال فيه مع كلماتها اللغوية كما ذكرت أصل المثل إذا كان ذا أصل قديم، وقارنته بالأمثال العامية في البلاد العربية الأخرى إذا كان يوجد له نظير فيها، كما أوردت ما عثرت عليه من الشواهد القديمة من الأبيات الشعرية والأمثال والأقوال المشابهة.
وإنني إذ أقدم للك كتاب» الأمثال العامية في نجد» بعد توسعته إلى ضعف ما كان عليه ثلاث مرات من حيث عدد الأمثال، واربع مرات من حيث الحجم، أرجو أن يحظى منك بالقبول وألا يكون فيه من الخطأ ما قد يقلل في نفسك من قيمة المجهود المضني الذي بذلته في جمعه وتأليفه.
وقد شاء الله تعالى أن يتأخر صدوره عن القسم الأول عشرين سنة لَبِثَ فيها حبيس المسودة حتى أخرجته من محبسه لفته كريمة من دارة الملك عبدالعزيز بالرياض التي اجتمع مجلس إدارتها وقرر تقديم مساعدة قيمة لطبعه ونشره.
فاستحق بذلك الشكر والتقدير من المؤلف وممن يهمهم أمر البحوث الأدبية في هذه البلاد فشكراً لصاحب المعالي العالم الأديب الشيخ حسن بن عبدالله آل الشيخ وزير التعليم العالي ورئيس مجلس الإدارة في الدارة الأستاذ الدكتور طامي بن هديف البقمي الأمين العام للدارة على ذلك.
ثم قامت دار الثلوثية بإعادة طباعته مجدداً في خمس مجلدات فاخرة سنة 1433هـ بعد أن نفدت تلك الطبعة.
لم تتوقف همة شيخنا عند حد بل سارع إلى البحث عن مشاريع علمية جديدة تحمل معها الجدة والابتكار والتنوع والسبق المعرفي فكان أن بدء في مشروع جديد «أسماه الأصول الفصيحة للأمثال الدارجة».
وكانت فكرته كما حدثني بها بدأت معه أثناء كتابته لهذا الكتاب» الأمثال العامية في نجد»
حيث يقول وجدت أن كثيراً من الأمثال العامية في نجد لها ما يقابلها ويماثلها من الأمثال العربية الفصيحة.
فبدأت في حدود سنة 1380هـ في جمع تلك الأمثال ومقابلتها مع الفصيح.
ثم شغلت سنوات طوال في الترحال وتفقد أحوال المسلمين وكتب أخرى.
وبعد سنوات عدت إلى ملزمة الكتاب وعزمت على تكملته وإتمامه، وكان ذلك بحمد الله وفضله.
وبعد أن انتهى شيخنا من الكتاب سنة 1426هـ عرض على إحدى الجهات الحكومية المعنية بالنشر للباحثين نشر هذا الكتاب.
فطلبوا نسخة منه إلا أنه مع الأسف لم يستشعروا الجهد العلمي الذي استغرق معه سنين طوال حتى اكتمل في ثمان مجلدات.
فكان أن أحيل إلى أحد الفاحصين الذي لا يعلم مع الأسف شيئاً عن هذه المادة العلمية المتميزة الغزيرة.
وظل حبيساً لدى الفاحص المشار إليه والجهة تلك أكثر من خمس سنوات.
وبعد إلحاح مني وملاحقة رجوته أن يطلب من تلك الجهة إعادة الكتاب لطول المدة التي ظل فيها حبيساً.
وفوجئنا مع شيخنا بإعادة النسخة وقد وقع عليها الكثير من العبث والتعديل المخل بمنهج الكتاب ومادته العلمية.
حتى قيَّض الله مكتبة الملك عبدالعزيز العامة التي لها سجل مشرف مع النشر لكتب شيخنا حيث سبق أن قامت بنشر كتابه الأهم ايضاً «الأصول الفصيحة للألفاظ الدارجة» في ثلاثة عشر مجلد وحظي بتقدير كبير من الجهات والمؤسسات والأفراد.
ونال العديد من الجوائز أخرها جائزة كتاب العام من نادي الرياض الأدبي
لقد استقبلت مكتبة الملك عبدالعزيز العامة هذا السفر العظيم « الأصول الفصيحة للأمثال الدارجة» بعناية واهتمام بالغ وقامت مشكورة بتفريغ أحد الباحثين مع شيخنا لمراجعة الكتاب على الأصل والتأكد من عدم وجود أخطاء مطبعية حتى اكتمل وجهز للطباعة.
وكان أن أصدرته المكتبة في ثمانية مجلدات فاخرة أنيقة.
فلهم أوفر الشكر والتقدير.
أما الكتاب فقد أوجز شيخنا فكرته في مقدمته التي قال فيها «فقد أراد الله أن أكون معنياً بالأمثال العامية في بلادنا النجدية منذ أن قرأت بعض الكتب الأدبية، وقصدت وأنا في الكُتَّاب لم يزد سني-آنذاك- على عشر سنين أن أؤلف كتاباً على غرار بعض الكتب الأدبية التي كان معلم المدرسة يملي علينا بعض محتوياتها. فكتب في دفتر صغير لم يكن إلا عبث صبيات، وتقليد الأطفال، وكان من بين أبوابه: باب الأمثال العامية.
وقد بقيت لدى مقادير كبيرة من الأمثال غير ما طبع منها، كان منها ألف مثل عكفت على البحث عن أصولها القديمة، وتطور ذكرها في المراجع العربية التي لم يكن أكثرها مفهرساً، ولا أسهل المأخذ، ما اقتضاني وقتاً وجهداً، ولكن الكتاب عندما اكتمل رأيت أنه يستحق ذلك، وقد عنونته بـ «الأصول الفصيحة للأمثال الدارجة» وقدرت أن يقع في مجلدات عديدة.
وبقيت عندي بعد تأليفه مجموعة أخرى من الأمثال من غير ذوات الأصول المعروفة ضمنت أكثرها «معجم الألفاظ العامية» الذي أسميته بـ «المعجم الكبير» من دون شرح واسع، لأنها استشهادات على الألفاظ وردت في المعجم.
وقد تأخر طبع كتاب «الأصول الفصيحة للأمثال الدارجة» مع أن جميع ما فيه من الأمثال، وحتى شواهدها وأصولها لم يذكر شيء منها في كتاب «الأمثال العامية» المطبوع، فرأيت إعداده للطبع، غير أنني وأنا أفعل ذلك طرأت على خاطري فكرة ضم الأمثال ذوات الأصول الفصيحة المذكورة في كتاب «الأمثال العامية» إليه حتى يكون جامعاً لذوات الأصول الفصيحة من الأمثال، فيكون أكثر شمولاً، وأصدق على مضمونه.
لا سيما أن كتاب «الأمثال العامية» قد صدر منذ مدة طويلة، وقل المعروض من نسخة للبيع في الأسواق.
وبذلك صار كتاب الأصول الفصيحة للأمثال الدارجة يشتمل على أمثال مذكورة الأصول ومشروحة، ومقارنة بمثيلاتها من الأمثال في البلدان العربية.
وقد استدركت أشياء على الأمثال ذوات الأصول الفصيحة الواردة في كتاب «الأمثال العامية» لم أقف عليها إلا بعد طبع كتاب، مما سوف تراه إذا كنت معنياً بذلك. وهذا مما حدا بي إلى ضمها إلى معجم «الأصول الفصيحة للأمثال الدارجة».
لقد استغرق هذا المعجم الفريد والذي يضاف إلى قلائده وفرائده وقتاً طويلاً وجهداً عظيماً يلحظ ذلك كل من تأمل المنهجية المعجمية الشاقة التي اختطها لنفسه.
إضافة إلى الصعوبات البحثية التي واجهها أثناء الكتابة.
ومما أورد ويستحق التدقق والتأمل توضيحه للغة الأمثال الدارجة « لغة الأمثال الدارجة المذكورة في هذا المعجم هي اللغة العامية المحكية في قلب الجزيرة العربية، مما كان يطلق عليه لفظ (نجد)، وما التحق بها، ويمكن تحديدها من الجنوب إلى الشمال بأنها من مشارف الربع الخالي جتى الأطراف الجنوبية من الشام، ومن الغرب بسفوح جبال السروات الشرقية وامتدادها شرقاً حتى الخليج العربي.
على أن ذلك يدخله الاستثناء، وهو أنه يدخل لهجات بعض القبائل في الحجاز وأقصى الخليج من جهة الجنوب في هذه المنطقة، كما يخرج منها مدناً ومحافظات قريبة لها كمحافظة الطائف وما حولها.
وعلى أية حال فإن القول في الحدود اللغوية ليس القول في الحدود الجغرافية أو الإدارية، فاللغة لا تحجزها حواجز محددة، ولا تنفصل بفواصل قاطعة مانعة، وإنما ذلك على الأعم الأغلب.
وإنني لم أتوسع في شرح الألفاظ العامية لهذه الأمثال، فضلاً عن أن أبحث عن أصولها القديمة وجذورها اللغوية، لكزني فعلت ذلك في كتب عديدة، أغلبها من الكتب الضخمة، مثل: «معجم الألفاظ العامي» الذي قد يصل إلى اثنين وعشرين مجلداً، «وكلمات قضت» الذي طبعته دارة الملك عبدالعزيز في الرياض في أربعة مجلدات، وذلك إلى جاب معاجم أخرى، مثل: «تكملة المعجم اللغوي في جزيرة العرب»، أو «معجم ما ليس في المعجم» ، إضافة إلى الكتب اللغوية المتخصصة مثل: «الكتابة والمجاز في اللغة العامية» ، و «الألفاظ الدخيلة في لغتنا الدارجة».
كما أكد على أوليته في كتابه الأمثال عموماً وتفصيلاً؛
كما أنه يشير إلى سؤال هام في ذات الموضوع عن طريقة التوثيق للأمثال التي يأخذ بها فيقول «لقد استهديت إلى تسجيل هذه الأمثال العامية مثلما فعلت في تسجيل هذه الألفاظ العامية، بما كان فعله أسلافنا العظام من علماء اللغة الأجلاء ومنهم -إن لم يكن على رأسهم- الإمام الثبت الحجة أبومنصور الأزهري، صاحب كتاب «تهذيب اللغة» الذي طبع 15 مجلداً، من حيث إنهم كانوا يرون أن تسجيل الألفاظ اللغوية الفصيحة يحتاج إلى التوثيق، مثلما يحتاج تسجيل الأحكام والنصوص الواردة في كلام السلف الصالح من التابعين ومن بعدهم، ذلك بأنهم يعرفون أن تسجيل معاني تلك الكلمات قد يكون معناه تسجيل معاني ألفاظ شرعية، أو لنقل: إنها ألفاظ وردت فيها أحكام شرعية، فهي تدل على معاني آيات كريمة، أو ألفاظ أحاديث نبوية، لذلك اعتنوا في توثيقها عن طريق معرفة أحوال من رووها، وهل هم من الثقات الذين يتأكدون مما يروون، أو ممن يتسامحون في مثل تلك الرواية.
على أنهم كانوا ينقلون معاني تلك الالفاظ عمن سبقهم، أما نحن، فإننا ننقلها عن أنفسنا -إن صح التعبير- فنحن أهلها، ونحن المتكلمون بها، ونحن الذين نعرف معانيها أكثر من غيرنا». وسوف أورد هنا مثالاً على استغراقه العلمي الدقيق في البحث عن الأصول الفصيحة وما قيل فيها من شعر ونثر مما سوف يكون مدهشاً للقارئ الكريم.
« آخر الداء الكي»
هو مثل قديم يروى بهذا اللفظ، والمشهور: (آخر الدواء الكي) ويروى: (آخر الدواء العياء الكي)، أي أنه لا يشفى إلا بالكي. وقد أورد الزمخشري له قصة طويلة أضربنا عن ذكرها لطولها وقال ابن الوردي:
قلت يا هذي طببيني بوصل
تنعشيني فليس كالوصل شيّ
فلوت بالصدود قلبي وقالت
هاك طبي آخر الطب كي
قال أبونواس
يموت مني كل يوم شي
والجسم مني ثابت وحي
والمرء يبلى نشره والطي
وكم عسى من أن يدوم الحي
وآخر الداء العياء الكي
ومن شعر شهاب الدين الخفاجي
وآخر طب الداء كي ودهرنا
يقدم كالخياط منه المكاويا
ونقل الثعالبي عن إبراهيم بن ميميون قال: ينبغي للمرء أن يبني أمره مع عدوه على أربعة أوجه: اللين، والبذل، والكبد، والمكاشفة كالخراج الذي أول علاجه التسكين فإن لم ينفع فالإنضاج والتحليل، فإن لم ينجح فالط فإن لم يغن شيئاً فالكي، وهو آخر الدواء عند العرب والعجم.
وقال كتاب «الأدب والمروءة» لصالح بن جناح: لا تقاتلن أحداً تجد من قتاله بداً فإنما الحق لمن غلب ولا غالب إلا الله وإن آخر الدواء الكين فلا تجعله أولاً.
هذا والمثل معروف عند العامة في أكثر البلاد العربية بل روي المثل أثرا ذكره العجلوني باللفظ النجدي، وقال: هو من كلام بعض الناس، وليس بحديث، والمراد: أنه بعد انقطاع طرق الشفاء يعالج بالكي ولذا حمل العلماء قوله? «وأنهى أمتي عن الكي» عما إذا وجد طريق غيره مرجو للشفاء.
وقال الملا على القارئ في موضوعاته الكبرى: والمشهور كما قال العسقلاني في أمثلة العرب: آخر الداء الكي، والمعنى: أخر الشفاء من الداء الكي..
وقال أبو عثمان الخالدي:
قل لمن يشتهي المديح ولكن
دون معروفه مطال ولي
سوف أهجوك بعد مديح وتحـ
ــريك وعتب، آخر الداء كي
ولكن قال الإمام ابن السكيت: تقول آخر الداء الكي وبعضهم يقول آخر الطب الكي ولا تقل آخر الداء الكي.
لن أتحدث عن تلك الساعات الطوال التي كان يقضيها شيخنا في مكتبته متنقلاً بين رياض الكتب يبحث عن لفظ أو يلتقط بيت شعر.
أو ينقب عن أصل الكلمة من قواميس اللغة ومصادرها ومعاجمها.
يرفض أن يستعين بأحد أو يساعده باحث في الوصول إلى مطلب لأنه يجد غاية متعته في ذلك العناء العلمي.
كانت لحظات ومازالت لحظات وساعات اليوم التي تنصرم سريعاً في متعته المفضلة مع الكتاب وهي التي أوصلت شيخنا إلى هذه الريادة في جوانب علمية متعددة ومتنوعة.
كم كان ألمي وأنا اسمع حديثه عن مقولة الطبيب له قبل أيام حين طلب منه أن يتوقف قليلاً عن القراءة بسبب الآلام التي يجدها في إحدى عينيه التي أجرى لها للتو عملية وحالها بعدما أنهكها في القراءة طوال سنين عمره وحياته -حفظه الله-.
فيرجوها أن تواصل معه رحلته تلك التي يشعر أنه يسابق الزمن والوقت من أجل إنجاز أعماله ومشاريعه العلمية المتتابعة. يحدثني عن إتمام بقية الأعمال التي نهض بها ويسعى لإتمامها وإخراجها.
ثم يقطع حديثه ويذكر طلب الطبيب منه أن يهدأ ويتوقف قليلاً.
أنَّى لعينيه التي صحبت الكتاب وأدمنت القراءة طوال تسعين عاماً أن تتوقف عن هذه الرحلة مع هذا الاستثناء الفريد والعالم الموسوعي الكبير. وكأنه يتمثل قول الشاعر:
عزاءكِ أيُّها العَينُ السَّكُوبُ
ودَمعَكِ، إنَّها نُوَبٌ تَنُوبُ
وكُنتِ كَرِيمَتي وسِراجَ وَجهِي
وكانتْ لي بكِ الدُّنيا تَطِيبُ
فإنْ أكُ قد ثَكِلتُكِ في حَياتي
وفارقَني بكِ الإلفُ الحَبِيبُ
فَكلُّ قَرِينةٍ لا بُدَّ يَوماً
سَيشْعبُ إلفَها عَنها شعُوبُ
يمُوتُ المَرءُ وَهوَ يُعَدُّ حيًّا
ويُخلِفُ ظنَّهُ الأَملُ الكَذُوبُ
يُمنِّيني الطَّبيبُ شِفاءَ عَينِي
ومَا غَيرُ الإلهِ لهَا طَبيبُ
إذا ما ماتَ بعضُكَ فَابكِ بَعضاً
فإنَّ البعضَ مِن بَعضٍ قَرِيبُ
لم أسمع ولم أر بمثل هذا الولع والتعلق بالكتاب قراءة ومدارسة وكتابة.
يمضي أكثر من ثلثي يومه في مكتبته فحسب.
غاية أمانيه ومنتهى قصده هي إكمال أعماله العلمية التي بدأها. متع الله شيخنا بالصحة والعافية وحفظه من كل سوء.
وأقر عيوننا به وأعماله وحفظ عينيه الكريمتين.