د. محمد عبدالله العوين
لا بد أن نعترف بأن مفهوم «الهوية الوطنية» ما زال قلقاً في خطابنا الثقافي، بشقيه النخبوي والشعبي.
اكتمل توحيد المملكة العربية السعودية عام 1351هـ على يد المغفور له الملك عبد العزيز، فالتحم التهامي مع الشمالي، والشرقي مع الحجازي، والنجدي مع الجهات الأربع، لقد بنى المؤسس الكبير مفهوماً سياسياً لوطن يتشكل بعد شتات، ويتوحد بعد تفرق، وتلتقي أطرافه بعد تباعد، فأصبح لأبناء الجزيرة العربية وطن واحد كبير يجمعهم بعد أن كانت القرى والمدن والقبائل أوطانا صغيرة عائمة غير مستقرة، وتقاربت الأقاليم واللهجات والعادات، وتشكلت روابط جديدة تجمع ما بين المتباعدين في الجغرافيا المتنائين في المسافات ليلتقوا تحت مظلة وطنية واحدة.
حقاً، لقد كان جهداً نضالياً رائعاً بذله المؤسس والصحب الشجعان من حوله، ولم يمر يوم إلى نهاية القرن الهجري الرابع عشر يمكن أن يتشكك أو يقلق جيل لاحق عبر العقود التي مرت بعد التأسيس، فيتساءل: ما هي هويتنا الوطنية؟! ذلك أن الثوابت الراسخة التي نهضت عليها الدولة السعودية لم تتغير خلال نصف قرن بعد إعلان الوحدة، وهي التي قامت على: الإسلام شريعة ومنهجاً وسلوكاً، والعربية تاريخاً ولغة وقيماً واعتزازاً، والمحيط العربي والإسلامي انتماءً وامتداداً وتواصلاً.
وتصاعد المفهوم الوطني السعودي في الخطاب التعليمي والثقافي والإعلامي ليؤكد بأساليب مباشرة حيناً وغير مباشرة أحايين أخرى على ذلك، دون أن يضطر إلى تناول مصطلحات لم تكن رائجة ولا مطروقة ولا مثارة قبل عام 1400هـ على الأقل، كالوسطية والاعتدال والوطنية والسلفية والغلو والتشدد والتكفير والانفتاح والآخر ونحو ذلك مما جد لاحقاً.
وفي أثناء تلك السكينة الوطنية تواترت مصطلحات أيدلوجية مغلفة برؤى سياسية وعبرت إلى الأسماع والأعين من خلال المذياع والصحف لتصل إلى أجيال الستينيات الهجرية وما بعدها إلى قرب نهاية القرن، كالشيوعية والقومية والبعث ونحوها، ثم اشتد العصف الفكري بعد ثورة الخميني 1979م فترامى إلى الأسماع خطاب طائفي لم يكن أبداً مطروقاً منذ تشكلت المملكة، فاحتل التصنيف الطائفي جزءاً ليس يسيراً من اللغة الفكرية، كمصطلحي: السنة، والشيعة، مصاحباً ذلك تخوف أو قلق عند نفر من مد التحديث الغربي الذي بدأت تأثيراته واضحة في العالم العربي ومنها بلادنا، مما أحدث ردة فعل غبية أتت شبيهة بالعجز عن المواجهة أو الهروب من العصر إلى الماضي وتشكل ذلك في التمرد الإرهابي الذي قاده جهيمان باسم «السلفية الجهادية» أو جماعة «أهل الحديث» عام 1400هـ وسمح قمع ذلك التمرد بأن تجد جماعة الإخوان المسلمين لها فرصاً أوسع في العمل الفكري مستفيدة من الفضاء المفتوح للأنشطة الدينية البديلة عن الفكر التكفيري الجهيماني الذي أبيد في ثورة الحرم على مستوى الأفراد وإن بقيت بذوره، بيد أن جماعة الإخوان لم تكن تخفي مطامعها ولا رغباتها في قلب الحياة رأساً على عقب عن طريق التغلغل العميق في التربة السعودية واستنبات الكوادر القادرة على الوصول إلى أعلى المناصب في أهم المواقع الوظيفية، لإعادة صياغة مفهومات «الأمة» و»الوطن» من خلال مناهج التعليم والإعلام والثقافة، فنشأت أجيال جديدة خلال ثلاثة عقود لم تعد تسمع ولا ترى ولا تتحدث إلا بلغة الجماعة، وزاد هذا التعتيم المقصود والمدروس في مفهومي الأمة والوطن والخطاب الثقافي السعودي حالة السكينة القديمة المستسلمة أو ربما التيه التي سادت الساحة السعودية مع مقاومة المد الشيوعي والقومي والبعثي، فكان الخطاب السعودي مقاوماً معتمداً على ما يبعثه «الإسلام» في النفوس من قوة واعتزاز، ثم ازداد الاتكاء على البعد الديني بعد ضرب فتنة الحرم، فتلقفت الجماعة المتربصة المنتظرة الخطاب الإسلامي لتعيد صياغته من النبرة السلفية الأصيلة إلى إشباعه بالأيدلوجيا والتسييس وإعادة التكوين من خلال إطلاق مفهومات «الجاهلية» «والطليعة الإسلامية» و»البعث الإسلامي» و»الأمة» فألغى الخطاب الإخواني مفهوم «الوطن» إلغاءً تاماً.