د. محمد عبدالله العوين
قامت هذه الدولة المباركة على إعادة الناس إلى الاحتكام إلى كتاب الله وسنة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم وسيرة خلفائه والسلف الصالح من الأمة؛ فمنذ أن أعلن الإمام المؤسس محمد بن سعود - رحمه الله- قيام إمارة الدرعية 1157هـ وإلى الآن لم تحد عن هذا المنهج الإسلامي التجديدي المعتدل، ولم تكن ثمة معارضة فكرية واضحة لهذا النهج إلا رؤية فردية من أشخاص محدودين في قرى نجد أو الحجاز أو الأحساء ولا تمثّل اتجاهاً عاماً، ولذلك كانت الردود التي كتبها أئمة وشيوخ الدعوة السلفية قوية وواثقة؛ لتفنيد الرؤى النقدية التي أطلقها نفر ممن لم يستوعبوا أفكار الدعوة أو اندفعوا لمعارضتها؛ إما لنقص في العلم أو لغاية شخصية أو استجابة لهوى أو مطمع من دولة أخرى، وتمثِّل ردود الشيخ محمد بن عبد الوهاب التي جمعها عبد الرحمن بن قاسم في كتابه «الدرر السنية في الأجوبة النجدية» خير شاهد على نقاء المنهج وصفاء العقيدة وإخلاص النيّة ودحض الشبه ودفع التقوّلات والتبرؤ مما ألصق بمنهج الدولة السعودية الفكري، وهي أيضاً الحرارة نفسها في ردود تلامذة الشيخ وتلاميذهم أيضاً.
ولو توقف الأمر على شطط في الرؤية من هذا أو ذاك من بعض فقهاء نجد أو الحجاز أو الأحساء لهان الأمر؛ لكن الدولة العثمانية المتربصة التي كانت تنتظر أية فرصة سانحة للانقضاض على الدولة الناشئة وجدت أن مما سيضعف الدولة وربما يفككها أو يكون مسوغاً عند عامة الناس وبخاصة جهلاؤهم لغزوها اتهامها في المنهج الذي قامت عليه، وهكذا ألصقت بالدولة السعودية ما ليس فيها من دعاوى مبتذلة يسجّلها التاريخ عاراً على الدولة العثمانية الغازية بما استباحته من دماء وأعراض وأموال، وما أحدثته من إفساد في شبه جزيرة العرب التي كانت كلها من اليمن إلى حدود الشام ومن البحر الأحمر إلى العراق تحت سيادة الدولة السعودية الأولى.
كان الافتئات الفكري الآثم مقصوداً لتفكيك مجتمع الدولة؛ وهو ما حدث بالفعل؛ ليس في وقت الإمام عبد الله بن سعود بن عبد العزيز - رحمه الله- الذي ذهب ضحية لوحشية وحماقة وغطرسة العثمانيين كنهاية للدولة السعودية الأولى 1233هـ ولكن أيضاً بعد قيام الدولة في مرحلتها الثانية على يد الإمام تركي بن عبد الله ثم ابنه فيصل بن تركي - رحمها الله - إذا استغل العثمانيون الظروف التي واتتهم بعد وفاة الإمام فيصل وقسموا المجتمع إلى فريقين واستندوا على تأصيل التمزّق والاختلاف في الرؤية العقدية والفقهية؛ فتبع فريق الإمام عبد الله بن فيصل وتبع فريق آخر الإمام سعود بن فيصل.
وهكذا أسقط العثمانيون الأتراك الدولة السعودية في مرحلتها الثانية 1309هـ بسبب تأصيل وتأجيج الانقسام الفكري والحفر العميق في الاختلاف حول بعض المسائل واستقطاب فئات وزعامات من المجتمع للوصول إلى أهدافهم وتحقيق مآربهم في ألا يقوم للعرب في شبه الجزيرة كيان قوي يحفظ حقوقهم ويعلي من شأنهم ويرفع رايتهم ويبني لهم مجداً وحضارة.
وقد تنبه الملك المؤسس للدولة في مرحلتها الثالثة عبد العزيز بن عبد الرحمن - رحمه الله- إلى ألا يؤجج الصراع الأيدلوجي والفكري بين فئات المجتمع مهما كان الأمر؛ كي لا يفيد منه أي متربص منتظر الفرصة للدس وللوقيعة، وسارت الوجهة الفكرية والإعلامية على هذا النحو إلى أن وفد أعضاء من جماعة الإخوان المسلمين إلى بلادنا أواخر الثمانينيات من القرن الهجري الماضي وابتدأت أولى معالم نشوء تيار فكري جديد مختلف يحمل على ما سواه ويخالفه من التيارات الأخرى بما في ذلك المنهج السلفي المعتدل الذي نشأت عليه الدولة.
واليوم وقد مرت بنا التجارب ووقع بعضنا في فخاخ ومصيدة الانسياق خلف التأليب على هذا أو ذاك ورفض هذا أو ذاك؛ يحسن بنا أن نقف عند هذا الحد من الاستجابة لدعاوى الفرقة والانقسام، وأن ننظر بعين الحكمة إلى ما يمكن أن يجره الانجذاب إلى الاحتراب الفكري من فرص لتدخل الأعداء المتبرقعين لإيقاعنا في شرك الكراهية والفوضى والانقسام.