جارالله الحميد
في بعض الأحيان تعتري الإنسان - أيّا كان - حالة يزدري فيها الحياة. ربما لأن روح المبادرة يكون في درجة السلبية التي تشبه ميزان الحرارة حين يقف عند الصفر. والحقيقة أن شاعرا عربيا كبيرا وفيلسوفا عميقا هو (أبو العلاء المعري) قد سبق فكرة هذا المقال قبل مئات السنين إذ قال من مطوّلة له
(تعبٌ كلها الحياة فما أعجب إلا من راغب ٍ بازدياد)
ومنها صرخته (الوجودية) :
(وشبيهٌ صوت النعيّ إذا قيس بصوت البشير في كل ناد!)
ونحن نريد الحديث عن المعاصر والحاضر. نريد أن نكرر ما سبق أن كتبناه قبلا حول علاقة ( الطبيب النفسي) بالمريض (النفسي) وإن كان ثمة معترضون على عبارة - المريض النفسي - فاننا نعتذر منهم ونوّد أن (يوسّعوا) صدورهم قليلا علينا فهدف هذا المقال هو الإطلالة المهمة وغير المسبوقة - نظن ذلك - في هذا الموضوع الشائك والمعقد والواسع.
نعرف أن هدف الطب بشكل عام هو تخفيف آلام وأوجاع الإنسان الذي هو دوما في حال من الضعف ولولا معونة الله ولطفه ومساعدته لما استطاع هذا الكائن الضعيف أن يسير 100 م دون أن يتعثر أو يصطدم بشيء يعوق سيره ولما استطاع شيخ طاعن في السن أن يتحدث للآخرين عن وقائع ماضية يذكرها تماما ويعيها ويدرك ملابساتها. إن الله وحده يستحق أن نصلي له لما منحنا إياه من قوة تجعلنا نتغلب على أي خلل في أعضائنا.
نعود إلى (الطب النفسي) فنجد حقائق ماثلة في علاقة مجتمعنا به. إن مجتمعنا ظل أسير نظرة قاصرة للاضطراب الوجداني. فما أن يصاب فرد من أسرتنا بما يمكن تسميته اضطرابا وجدانيا حتى يكون أهم خياراتنا استدعاء أحد الدجالين الذين يمارسون الشعوذة في تعاطيهم مع المريض مما يجعل المريض يستسلم لفكرة أن به ( مسّا) من الجن. وتتم معاينة المصاب وعلاجه في غرفة منعزلة وتستخدم مفردات غير علمية ولا تنتمي للتراث الطبي العربي كربط أصابع المصاب - من خلاف - وزجر المريض والتحدث بصوت عال مع ما يوهم المعالج الآخرين أنه من (الجن).
وحين وصل المجتمع إلى فكرة ممارسة الطب الحديث ومنه الطب النفسي كان الناس ينظرون إلى الطب نظرة ملتبسة. بعضها يعود إلى يقين مترسخ بأن الطب - بكل فروعه - هو ضد (إرادة) الله. وهذا أحد أشكال الرفض للحديد واعتباره (حراما). وعندما افتتحت مستشفيات العلاج النفسي كان ذلك ثورة قوية لم يستطع المجتمع تقبلها حتى الآن!. فنحن نشاهد ونسمع أن فئات من الناس يتندرون على المصاب بـ(الصرع) ويضحكون على حالته إبان نوبة الصرع ويسمونه (أبو دورة)!. وحتى الآن فإن غالبية أفراد المجتمع ينظرون إلى المصحة النفسية على أنها أمكنة لـ(سجن) المجانين. وتعبير مجانين وحده دليل على أن مجتمعنا في زحمة عمله لتأمين متطلبات حياته الجديدة ينسى الذي تعلمه في المدرسة وما اسقته إياه الخبرة وحكايات الرجال. فيطلق لقب (مجنون) على أي مضطرب أو ذي حالة نفسية تجعله لا يحب الاجتماع مع الآخرين.
إلى هنا والحديث عادي جدا!
ما بالكم بالطبيب (النفسي!!!) الذي يجهر بالقول لمريضه (أنت تريد مخدرات ولا تريد أن تتعالج !) فإذا نظرنا إلى عبارة أنت تريد مخدرات ألا نسأل هذا الطبيب : إن أدواتك التي تمارس علاج المواطنين بواسطتها هي (مخدرات) حسب قولهم. لا فرق بين دواء وآخر ماداما لا يصرفان إلا بواسطة وصفة تدعى (وصفة أدوية تحت الرقابة)! إن الطبيب الذي يردد طوال ساعات دوامه شتائم للمخدرات كان ينبغي أن يختار تخصصا آخر غير الطب النفسي. وهو نتاج المجتمع الذي لازال - للأسف - يزدري المصاب بمرض نفسي مع أن ثلاثة أرباع الذين يشكون ويتعالجون من حالات نفسية هم من الفئة العاملة أي المنتجة في المجتمع ويصرفون على بيوت وعائلات وينهكون أنفسهم في سبيل التزامهم العائلي والمجتمعي!. فبأي حق يتطاول طبيب عليهم ويتهمهم بالبحث عن المخدرات وينفي حاجتهم للعلاج؟!
إنه سؤال مرّ !
والأكثر مرارة أن فئة كبيرة من مواطنينا يسافرون لبعض الدول العربية التي تتعامل مع الدواء النفسي باعتباره (دواء) ليس إلا. ليجلبوا علاجهم من هناك ويتفادوا في الوقت ذاته (شماتة) الجهلة من الناس الذين يظنون أن كل من يشتكي علة نفسية هو ( مجنون !) مع أنه لا يوجد شيء تحت مصطلح جنون في علم النفس الدوائي والاجتماعي. وزد على ذلك أن المضطربين نفسيا يملكون عينا حادة النقد. أي أن مرضهم هو ( وجع اجتماعي) والفرق بينهم وبين الآخرين إنهم يقولون آراءهم والآخرون لا يجرؤون.
لنا عودة بإذن الله.