قد يغيب الرجال ولا تراهم العيون، لكنهم يسكنون الضمائر موقفاً ومبدأً وعمق رؤية. لقد ودّعتم وودّعنا أخاكم الملك الراحل «عبدالله بن عبدالعزيز» - رحمه الله - جسداً، لكن حكمته وعمق رؤيته وهو يرتب الأولويات ويعتمد البرامج ويوجه المسيرة بقيت معاني سامية تستلهمونها طاقة عمل، ورسالة قائد، ووصية حكيم. إن غاب أخوكم «عبدالله» فكيف تغيب كلماته التي رسمت لكم منهج العمل وشرف المسؤولية في وطن استثنائي بشرف المكان وعالمية الرسالة.
هي ملفات وطن، وهموم مجتمع، تنتقل من يمين (عبدالله) إلى يمينكم؛ لتؤكد عمق الرؤية وثبات المسيرة، في دولة أثبت التاريخ أن أثمن ثرواتها هم الرجال الذين إذا غاب منهم سيد قام سيد. أنتم أبناء المؤسس وأحفاده.. رجال يصنعون التاريخ ضمن معادلة سعودية فريدة، لا يجيد وزن عناصرها سوى الرجال الأفذاذ. فرحمك اله يا (عبدالله)، وأسكنك فسيح جناته، والدعاء لك يا مليكنا (سلمان) في مهام الدولة بعون من الله، وليحفظ الله الوطن وقيادته.
لقد بدأ وطنكم الكبير مليكنا سلمان (الذي هو وطننا) عهداً جديداً بعد انتهاء مراسم العزاء في أخيكم الملك الراحل عبدالله بن عبدالعزيز آل سعود ـ رحمه الله ـ، واستكمال مناطق ومحافظات المملكة البيعة لمقامكم الرفيع، إذ استقبلتم حينها جموعاً غفيرة من المواطنين والمقيمين وقادة ومبعوثي الدول، الذين أتوا لتعزيتكم بوفاة الملك عبدالله بن عبدالعزيز، وتهنئتكم بتولي مقاليد الحكم ومبايعة أخيك ولي العهد نائب رئيس مجلس الوزراء صاحب السمو الملكي الأمير مقرن بن عبدالعزيز آل سعود وولي ولي العهد النائب الثاني لرئيس مجلس الوزراء وزير الداخلية صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن نايف بن عبدالعزيز آل سعود. يومها حيّتك القلوب، وصفّقت خلجاتها بالحب والتمجيد، وكان الصوت المجلجل باتجاهات بوصلة وطننا الأربع من الشمال الأبي إلى الجنوب الوفي، ومن البحر الجميل غرباً إلى الخليج الأصيل شرقاً: «الثقة على طريق المستقبل.. ليبقى الوطن»، التي كانت عناوينها وقتئذ المصلحة الوطنية العليا، والروح الانتمائية للدين ثم المليك والوطن، والاستعداد المطلق للتضحية والفداء.
لقد قُدْتم - حفظكم الله - مسار إمارة منطقة الرياض لنحو خمسة عقود في وقت يومها كان هذا الوطن يخطو خطواته الأولى هجرة من عذرية الأمس إلى طموح الحاضر. صنعتَ يومئذ للتطور والرقي موقفاً جسّد إمكانات الحاضر الماثل آنئذ، وهواجس الغد الغارق في طيف الخيال، وكان من أبرز ملامح ذلك الموقف دوركم السامي والرائد في إنشاء الهيئة العليا لتطوير مدينة الرياض عام 1394هـ, التي تولت مسؤولية التطوير الشامل بأبعاده الحديثة, ووفرت أرضية مشتركة وتنسيقاً جماعياً من قِبل الأجهزة الحكومية والخاصة كافة ذات العلاقة عند إنشاء وتنفيذ المشاريع التنموية في العاصمة؛ لتكون رصيداً من الأمل الواعد، ولتنصهر في بوتقة البناء بالعقل والساعد من حيث العمارة والخدمات والمشاريع التنموية الضخمة والحركة التجارية والاستثمارية الدؤوب. وكنت يا سيدي ترقب هذه الهيئة، وترصد جهودها دعماً وتقويماً وتوجيهاً حتى انعكس ذلك عليها بالإيجابية على صنع التنمية الحضارية للعاصمة التي تحبها كما نحبها؛ ما جعلها في مصاف العواصم العالمية المتقدمة.
وكانت لك ـ يا سيدي ـ رؤية صائبة، ترجمتها إلى موقف سديد في دعم التنمية السياحية والتراث الوطني في هذا الوطن الرؤوم، وكنت داعماً رئيسيًا لمشاريع وبرامج الحفاظ على التراث الوطني. فنشأ مخاض من الحراك، تحققت خلاله نقلات حضارية، ملأت حس المواطن والسائح وسمعه وبصره، أبرز بُعداً حضارياً لأرض وطننا الذي هو وطنك، بما يرسخ مكانته الحضارية وعمقه التاريخي.
وكنت أيها الملك منذ بواكير شبابك تشارك في كثير من الأنشطة السياسية والدبلوماسية المكثفة، التي وضعت نصب عينيك فيها دائماً المصالح العربية والإسلامية كأساس تعاملت من خلاله مع الساحة الدولية لتعزيز مسيرة السلام العالمي، وترسيخ التعاون المثمر بين الأمم لصالح الشعوب.
وأنتم الكف الحنون الذي ربت على أكتاف اليتامى، فأنبتم في دواخلهم الإحساس بفيض أبوّتكم، وأنتم القلب العطوف الذي واسيتم به الفقراء؛ فأشعرتهم بأنهم أكثر الناس ثراء بوجودك بينهم.
وجاء معدنكم الوفي الذي تكشّف للجميع أثناء وقفاتكم التاريخية مع إخوانكم على مدى عقود في خدمتهم وخدمة وطن أحببتموه، وأخلصتم له، فبادلكم الوطن حباً بحب، وقابلكم صدق إخلاصه بفيض من الوفاء.
ولقد ترجمتم يا سيدي سلمان - رعاكم الله - القول لفعلٍ صفة، لازمت آل سعود، وميزتهم منذ أول دولة لهم، وهذا - لعمري - ما جعل حضوركم على صفحات التاريخ العربي الحديث مختلفاً، وهي في الواقع صفة مبعثها التزامكم بالإسلام، وطبيعتكم العربية الأصيلة: فالوفاء بالوعد، وعدم نقض العهد، وحب الإصلاح، وتوفير وسائل الطمأنينة والتسامح الذي بالعدل يسمو، والتواضع الذي بالهيبة يعلو، والإصرار على الحق، واستمرار نهج الاعتدال والوسطية، ودعم السلام والاستقرار العالميين، والاحتفاظ بالمكاسب والتطلع للمزيد، واستيعاب الأشياء التي كانت وما زالت من أهم ركائز السياسة السعودية.
فها أنتم قد أكدتم في خطابكم التأسيسي الأولي بعد تحملكم أمانة القيادة ومسؤولية الحكم في بلدنا العزيز ووطننا الغالي الحبيب تمسككم «بالنهج القويم الذي سارت عليه المملكة منذ تأسيسها على يد الملك المؤسس عبدالعزيز - رحمه الله - وعلى أيدي أبنائه من بعده - رحمهم الله - ولن نحيد عنه أبداً، فدستورنا هو كتاب الله تعالى وسُنة نبيه صلى الله عليه وسلم». وعرّجتم ـ أيدكم الله ـ على الملف الخارجي مؤكدين استمرار مملكتنا في الأخذ بكل ما من شأنه وحدة الصف وجمع الكلمة والدفاع عن قضايا الأمة، مهتدية بتعاليم الدين الإسلامي الحنيف الذي ارتضاه المولى لنا، وهو دين السلام والرحمة والوسطية والاعتدال, مؤكدين - حفظكم الله - أن أمتنا العربية والإسلامية هي أحوج ما تكون اليوم إلى وحدتها وتضامنها.
ويسجل لكم التاريخ السعودي بصفحات من نور منذ زمن بعيد أنك السياسي المتقد والمستنير المتصف بعميق الحكمة وبالغ الحنكة وعجيب الكياسة ولطيف التدبير وبُعد التفكير ومضاء العزيمة وقوة الإرادة وواسع الحلم وفائض الكرم.. ففي خضم ما يعيشه من حولنا من تنازع الأهواء والأهوال وعباب الأزمات وحدق الأخطار وسكن الحروب الأهلية والصراعات ومخاطر التفكك تأبى يا سيدي سلمان المجد يا ابن عبدالعزيز إلا أن تسطر إدراككم معطيات المرحلة الجديدة وتحدياتها واستحقاقاتها التي كانت من أولوياتها تعديل وزاري لكثير من الوزارات، عبّر بجلاء عن مصالح شعبك كافة، وحقق طموحاتهم وتطلعاتهم إلى النهوض والبناء والتنمية الشاملة، إلى غير ذلك من أوامركم الملكية الكريمة ـ وفقكم الله ـ، التي جاء منها: (صرف راتبين لكل موظفي الدولة من مدنيين وعسكريين، وأيضاً مكافأة شهرين لجميع طلاب وطالبات التعليم الحكومي داخل وخارج المملكة، وإعانة شهرين للمعاقين، وصرف راتب شهرين للمتقاعدين، وصرف مكافأة شهرين لمستفيدي الضمان الاجتماعي، ودمج وزارتي التربية والتعليم ووزارة التعليم العالي في وزارة واحدة باسم وزارة التعليم، ودعم الأندية الرياضية بـ10 ملايين ريال، ودعم الأندية الأدبية بـ10 ملايين ريال، وإعفاء سجناء الحق العام، واعتماد مبلغ 20 مليار ريال لتنفيذ خدمات الكهرباء والمياه، وتخصيص 14 مليار ريال لتنفيذ إيصال الكهرباء، و6 مليارات لتنفيذ إيصال المياه، والعفو عن السجناء في الحق العام وفق القواعد الواردة ببرقية وزارة الداخلية، ويتضمن ذلك الإعفاء من الغرامات المالية بما لا يتجاوز 500.00 خمسمائة ألف ريال. علاوة على قراراتكم الأخرى التي شع منها التغيير والتطور الإيجابي وتحديث العمل بدعمكم من قِبل المستشارين من ذوي الحكمة والدراية السياسية والإدارية والعسكرية وتعزيز قصر الحكم، والعاصمة المقدسة بأميرين قياديين، عُرف عنهما الحزم والقيادة.
إضافة إلى القرارات التأسيسية والتنظيمية والأطر الاستراتيجية، التي امتدت لها كفوف عقولكم التي أنبتها معالم جودتكم في الإدارة من أطلال ثقافة العصر وتقنين المسيرة وتذليل المعوقات التي تبرز هنا وهناك، والتهيئة الواعية في فضاء الزمن المتحرك.
ومنذ أن قرأتْ عيوننا سطور تغريدتكم ـ نحن أبناءك الشعب السعودي ـ عبر حسابكم الشخصي في التويتر ـ يحفظكم الله ـ وذلك في أعقاب الأوامر الملكية التي أصدرتموها مساء يوم الخميس 9 ربيع الآخر 1436هـ، قائلاً فيها: «أيها الشعب الكريم: تستحقون أكثر، ومهما فعلت لن أوفيكم حقكم. أسأل الله أن يعينني وإياكم على خدمة الدين والوطن. ولا تنسوني من دعائكم». حتى وقفتْ مشاعرنا اتجاه حروفها وكلماتها ومشاعرها حائرة، أيها تنيب؟! وأيها تختار؟! وبأيها نبدأ؟! وتحفّزتْ مشاعرُنا، وتدفقت متضاربة، تتدافع كلها نحو البداية التي نريد أن تختار لتتركنا أمام بدايات في الحكم عابقة، نحتار معها بأيها نبدأ؟! تتلألأ فيها مشاعر الفخر والاعتزاز اتجاهكم، وإدراك معطيات ومحددات بعدكم الإنساني والديني والوطني الذي استندتم إليه ـ يا رعاكم الله ـ، والتعميق في صدق توجهاتكم وصوابية رؤيتكم، وشجاعة طلب اصطفافنا الإيجابي لمساندتكم وتأييدكم، واستشعار نظرتكم الثاقبة، وملامستها لاحتياجاتنا. فرداً بعد فرد، ومواطناً بعد مواطن.
واليوم.. وغداً.. ونحن أبناء وطنك نؤكد تشرفنا بقيادتك على ثرى هذه الأرض الفتية، وإنا لنفخر بأننا من رعيتك، وبهذه النعمة لمغتبطون، وبعهدكم لفرحون، وبحبل الله سبحانه وتعالى لمستمسكون، وبهذه الحياة الهادئة الوادعة الهادفة لمسرورون. وستلتحم غاياتنا معكم من أجل حماية هذه الوحدة الوطنية المباركة التي نتفيأ ظلالها، ونحافظ على التماسك والاصطفاف، لإكمال مشوار ما بدأه آباؤنا وأجدادنا في صياغة التاريخ وما مررنا به، ووضع اللمسات الإيجابية لصناعة الحاضر، والمستقبل أمامنا وأمام الأجيال القادمة من بعدنا؛ ليكون هذا الوطن المتوحد اسمه الذي يتفاخر به دوماً أبناؤه في مختلف أرجاء المعمورة، فدمت يا سيدي ودام الوطن.
أسأل الله تعالى أن يوفقكم وولي عهدكم الأمين الأمير مقرن بن عبدالعزيز وولي ولي عهدكم الأمير محمد بن نايف، وأن يعينكم على حمل المسؤولية، وأن يعينكم على خدمة هذا الوطن وأبنائه، وأن يثبتكم على الحق والخير والعدل وقيادة الأمة، وأن يلهمكم البصيرة الثاقبة والبطانة الصالحة والبناء الراسخ المتين، وتواصل طريق الإنجاز والنهضة لهذا الوطن.