الحمد لله القائل: مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُواْ مَا عَاهَدُواْ اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُواْ تَبْدِيلاً الأحزاب:23، والصلاة والسلام على أعظم مفقود نبي الرحمة وهادي البشرية من أمرنا بالتعزي بمصابنا به عند حلول المصائب وبعد:
فإنه - والله - لمصاب جلل، وخطب عظيم، وحدث محزن أليم، أدمى القلوب وأبكى العيون، لفقد هذه البلاد ابناً من أعظم أبنائها البررة، وقائدا من أعظم قادتها، الذين أسهموا في بناء نهضتها الشاملة ورقيها وتقدمها ورفعتها وأمنها، إنه فارس الإنسانية وحكيم الأمة خادم الحرمين الشريفين أحد أبناء الإمام الموحد الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود - رحمه الله رحمة واسعة، إنه خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز آل سعود -رحمه الله- القائد والإنسان.
كذا فليجلَ الخطب وليعظم الأمر
فليس لعين لم يفضْ ماؤها عذرُ
لقد خيم الحزن على البلاد
وبلغ الحزن بالمواطنين مبلغاً
حتى لتتمثل معه قول القائل:
وليس الذي يجري من العين ماؤها
ولكنها نفس تسيل فتقطرُ
ولا تستغرب هذه المشاعر التي عبر عنها المواطنون بل والمقيمون على هذا الثرى الطاهر المملكة العربية السعودية بعفوية، وخيم الوجوم على الجميع، فالتقاء المشاعر والقلوب على هذه الشخصية نحتسبه عند الله قبولاً له، وهي لقاء ما قدم من أعمال جليلة، وجهود جبارة، ولما عرف عنه - رحمه الله - من خصال عظيمة جليلة، جعلت منه قائداً فذاً عظيماً يحمل هم الوطن وأمنه ومستقبله ونموه وتطوره، وهم الأمة ووحدتها، وهم الإنسانية واستقرارها.
إن هذه البلاد المباركة والوطن القدير المملكة العربية السعودية قد أفاض الله تعالى عليها من نعمه وأكرمها بأن جعلها بلد الإسلام وموطن ودولة شريعته، منذ أن قام على تأسيسها الإمام محمد بن سعود - رحمه الله -, إلى أن وحدها وأعلى رايتها وبعث نهضتها الإمام الصالح العادل الملك عبدالعزيز بن عبدالرحمن آل سعود - يرحمه الله - ثم حمل الأمانة من بعده أبناؤه الملوك البررة - رحمهم الله تعالى - يحملها خلف عن سلف في ثبات على الأسس والمبادئ، وقيام بالمسؤولية في مواكبة المستجدات، ومتابعة المتغيرات، والأخذ بكل نافع مفيد، وهذا ما سارت عليه في عهد الملك العادل خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز آل سعود - رحمه الله - فسار بالوطن مساراً يحقق الموازنة والمعادلة الصعبة، وبسببها بلغ بها آفاق المجد والسؤدد وأصبحت المملكة درة متفردة, كيف لا والمفقود عزيز مبارك وعظيم من عظماء المسلمين جمع حللا ً من البهاء والسمات والخلال ولهذا إن قيست منجزات الوطن في عهده بالأرقام والإحصاءات فهي قاصرة عن الوفاء بحقه، فالوطن أصبح ثقلاً عالمياً لا يمكن تجاهله، والمواطن غدا رقماً صعباً في معادلة التنمية، أما من جهة الخلق فقد لقبه أعداؤه قبل أبنائه ملك الإنسانية، ومن حيث الإنجازات الذي تحققت في عهد الميمون فشيء يفوق الوصف حيث شارك الفقيد - رحمه الله - في جميع مراحل بناء الدولة السعودية، منذ مرحلة التأسيس، مروراً بمرحلة التوحيد، وانتهاءً بمرحلة البناء والتطوير والتحديث والرقي، حتى غدت المملكة العربية السعودية -بفضل الله- في مصاف دول العالم الكبرى تقدما وعزة، ورفعة وتطوراً وازدهاراً وتأثيراً، وواحة للأمن والأمان وذلك على مدى أكثر من نصف قرن من حياته العملية حيث كان - رحمه الله رحمة واسعة -من أبرز قادة المملكة الذين تحملوا الكثير من المسؤوليات، وساهموا في العديد من الفعاليات المحلية والدولية على كافة المستويات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والإنسانية والثقافية والدينية والأمنية، يحفل سجله المبارك بالعديد من الإنجازات الكبرى داخلياً وخارجياً على كافة الأصعدة.
إن الحديث عن شخصية خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز -رحمه الله- يعني الحديث عن شخصية قيادية عالمية حباها الله سمات شخصية فريدة ولهذا أثرت بشكل إيجابي وفعال في البيئة الوطنية رفعة ورفاهية ونمواً وتطوراً ورقياً، كما أثرت على مسار السياسات الدولية والإقليمية، فهو شخصية فذة تميزت بخصال عدة جمعها الله له قل أن تجتمع في إنسان واحد.
ففي أول يوم من حكمه ومبايعته كانت عبارته التاريخية التي تضمنت مبدأ الشراكة والمصير الواحد بين القيادة والمواطن على أساس العقيدة الإسلامية الواضحة وذلك عندما قال: (أعاهد الله ثم أعاهدكم أن اتخذ القرآن دستوراً والإسلام منهجاً وأن يكون شغلي الشاغل إحقاق الحق وإرساء العدل وخدمة المواطنين كافة بلا تفرقة ثم أتوجه إليكم طالباً منكم أن تشدوا أزري وأن تعينوني على حمل الأمانة وألا تبخلوا علي بالنصح والدعاء).
لقد تضمن هذا العهد العديد من الدروس القيادية، والمثال الفريد على القيادي المسلم الذي اتسمت شخصيته بالحكمة والشفافية، والوضوح أمام المواطن، وعدم المجاملة أو التساهل في حق الدين والوطن والمواطن، ومع مسيرة حكمه يحفظه الله تتضح ملامح هذا العهد والمبادئ التي وضعها في أولويات مهامه، لقد وصل بنفسه لهم، وتلمس احتياجاتهم وهمومهم، وكانت القرارات عاجلة في تحسين الوضع مهما كلف الأمر .
ولقد شهدت المملكة العربية السعودية منذ مبايعة الملك عبد الله بن عبدالعزيز -رحمه الله- في 26 - 6 - 1426هـ العديد من المنجزات التنموية العملاقة على امتداد مساحتها الشاسعة في مختلف القطاعات الاقتصادية والتعليمية والصحية والاجتماعية والنقل والمواصلات والصناعة والكهرباء والمياه والزراعة تشكل في مجملها إنجازات جليلة، تميزت بالشمولية والتكامل في بناء الوطن، وتنميته مما يضعها في رقم جديد في خارطة دول العالم المتقدمة، وتحقق لشعب المملكة العربية السعودية في عهده العديد من الإنجازات الضخمة والمهمة في كافة القطاعات، ففي قطاع التعليم والبحث العلمي وبحكم المسؤولية فقد خطت مسيرة التعليم العام والعالي في عهده خطوات متسارعة إلى الأمام، حيث وجهت المملكة نسبة كبيرة من عائداتها لتطوير الخدمات ومنها تطوير قطاع التعليم الذي يحقق نهضة تعليمية شاملة ومباركة، توجت بخمس وعشرين جامعة حكومية، والعديد من الجامعات الأهلية موزعة جغرافياً لتغطى احتياجات المملكة، وتم إنشاء العديد من المعاهد والمراكز البحثية في مختلف الجامعات، وكذلك رعايته رحمه الله لمؤسسة الملك عبدالعزيز ورجاله للموهبة والإبداع ورئاسته مجلس أمنائها حيث تعد مرحلة جديدة من مراحل التعليم في وطننا الغالي واستجابة طبيعية للتحولات النوعية الماثلة في مجال تحديث البرامج التربوية والتعليمية.
وفي نفس الإطار أقر مجلس الوزراء في جلسته التي عقدها في 24 محرم 1428هـ مشروع الملك عبدلله بن عبدالعزيز لتطوير التعليم العام الذي يعد نقلة نوعية في مسيرة التعليم في المملكة العربية السعودية فهو مشروع نوعي يصب في خدمة التعليم وتطوره في المملكة لبناء انسان متكامل من جميع النواحي الاجتماعية والنفسية.
كما أطلق -رحمه الله - مبادراته بتخصيص حكومة المملكة العربية السعودية مبلغ ثلاثمائة مليون دولار لتكون نواة لبرنامج يمول البحوث العلمية المتصلة بالطاقة والبيئة والتغير المناخي، وجامعة الملك عبدالله للعلوم والتقنية شاهد على التطور النوعي الذي يكمل مشروعه الجبار في الابتعاث ليكون كل ذلك وسيلة لتوطين الخبرات العالمية والوصول إلى الريادة المطلوبة، ولست بصدد إحصاء الإنجازات رغم أهميتها لكنها حقاً كانت حقبة مباركة شهدت منجزات نوعية، يأتي في مقدمتها المنجزات العظيمة العملاقة في الحرمين الشريفين ومنطقة المشاعر المقدسة تلكم التوسعات التي يعجز اللسان عن وصفها ويعجز القلم عن الإحاطة بدقائقها وتفاصيلها، كما أن الدفاع عن الإسلام بنقائه وصفائه ووسطيته من أجل أعماله، التي قدم بها هذا الدين للعالم بعيداً عن ارهاب المعتدين، وتوظيف التيارات الحزبية، والجماعات التي فرقت المسلمين شيعاً، وما تلكم المبادرة العالمية للحوار بين اتباع الأديان والثقافات والحضارات ونبذ الصدام بينها وتقريب وجهات النظر إلا شاهد على اللغة المتقدمة التي صارت وسيلة للتقارب والعلاقات السليمة الإقليمية والعالمية، وتدعو إلى ضرورة تعميق المعرفة بالآخر وبتاريخه وقيمه، وتأسيس علاقات على قاعدة الاحترام المتبادل والاعتراف بالتنوع الثقافي والحضاري واستتثمار المشترك الإنساني لصالح الشعوب.
وفي المجال الاقتصادي توجهت جهوده رحمه الله نحو الإصلاح الاقتصادي الشامل وتحسين بيئة الأعمال في البلاد وإطلاق برنامج شامل لحل الصعوبات التي تواجه الاستثمارات المحلية والمشتركة والأجنبية بالتعاون بين جميع الجهات الحكومية ذات العلاقة على حصول المملكة العربية السعودية على جائزة تقديرية من البنك الدولي تقديراً للخطوات المتسارعة التي اتخذتها في مجال الإصلاح الاقتصادي ودخول المملكة ضمن قائمة أفضل عشر دول أجرت إصلاحات اقتصادية انعكست بصورة إيجابية على تصنيفها في تقرير أداء الأعمال الذي يصدره البنك الدولي.
وفي المجال السياسى حافظت المملكة في عهده رحمه الله على منهجها الذى انتهجته منذ عهد مؤسسها الراحل الملك عبدالعزيز طيب الله ثراه القائم على سياسة الاعتدال والاتزان والحكمة وبعد النظر على الصعد كافة ومنها الصعيد الخارجى حيث تعمل المملكة على خدمة الإسلام والمسلمين وقضاياهم ونصرتهم ومد يد العون والدعم لهم فى ظل نظرة متوازنة مع مقتضيات العصر وظروف المجتمع الدولي وأسس العلاقات الدولية المرعية والمعمول بها بين دول العالم كافة منطلقة من القاعدة الأساس وهي العقيدة الإسلامية الصحيحة.
وهكذا فقد اتسم عهد خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز آل سعود -رحمه الله - بسمات حضارية رائدة جسدت ما اتصف به رعاه الله من صفات متميزة أبرزها تفانيه في خدمة دينه ووطنه ومواطنيه وأمته الإسلامية والمجتمع الإنسانى بأسره في كل شأن وفى كل بقعة على هذه الأرض.
وهذه بعض جوانب العطاء عند فقيد الوطن والأمة والإنسانية، نسأل الله تعالى أن يتغمده بواسع رحمته، وأن يسكنه الفردوس الأعلى، وأن يبدله داراً خيراً من داره وأهلاً خيراً من أهله، كما نسأله أن يجعل البركة في عقبه والتوفيق والتأييد والعوض في خلفه، ونعزي أنفسنا فنقول كما قال نبينا صلى الله عليه وسلم: إن العين لتدمع وإن القلب ليحزن ولا نقول إلا ما يرضي ربنا وإن لفراقك يا عبد الله لمحزونون، والحمد لله ولا حول ولا قوة إلا بالله وإنا لله وإنا إليه راجعون والحمد لله على كل حال.