تشكو صحافتنا من جوانب نقص عديدة، في مقدمتها تواضع المحاولة النقدية المنهجية لها. فكيف يمكن لكِتاب أن يرتفع بهذه المحاولة إلى كفاءة يجعلها إعادة نظر جديرة بالتأمل بالمنتج الصحافي أو بعضه؟! كانت الإجابة أن يختص الكِتاب بفرع المقال.
كان هذا مستخلص لما جاء في بداية مقدمة كِتاب «نقائض الكاشيرة.. مراجعة سجال صحافي في السعودية» لمؤلفة الكاتب سعد بن محارب المحارب، مُحاضر الإعلام بجامعة الإمام محمد بن سعود. الكِتاب تضمن نتائج إحصائية مثيرة وربما صادمة لعشاق تسجيل المواقف المقالية «البطولية»، لكن قبل عرضها سأمر على المنهج وطريقة العمل. أشار المؤلف أن دراسة المقال هي من جوانب الرأي العام أكثر منها دراسة الأداء الصحافي، فالمقال فن فرعي للصحافة. ولعلنا بدأنا هنا بأول نقائض الكِتاب قبل نقائض الكاشيرة، فهل هو كِتاب عن الصحافة أم عن المقال والرأي العام؟
على كل حال، قرر المؤلف منهجه بوضع إطار زمني وموضوعي بتحديد فترة ثابتة لقضية محلية حديثة تناولتها مقالات الرأي بالصحافة المحلية، تحمل مواقف جدلية متعارضة. المؤلف اختار قضية توظيف المرأة محاسبة بالأسواق كمثال لقراءته النقدية، وجَمَعَ المقالات التي نُشرت حولها.
المؤلف تورَّط أو ربما نجح باختياره لهذه القضية، إذ اتضح له أن لها سمتين؛ الأولى أنها بلا قضية، فهي تعبير عن قضايا خلافية سابقة لا تحمل هي بذاتها قضية خلافية؛ الثانية أنها كشفت عن انعدام الحوار، بل أشبه بمناظرة انتخابية لتأكيد موقف المؤيدين وكسب المترددين. «إنها محاولة مستمرة لبيع الرأي للجمهور. مقالات تحمل الجواب لا السؤال. أوشك أن أقول كلهم -أو كلنا!- أوصياء».
جَمَعَ الكِتاب وحلل 374 مقالاً من الصحف السعودية خلال الفترة من 10 أغسطس 2010م إلى نهاية 2012م. أساس التحليل كان عبر تحديد اتجاه المقال (مؤيد، معارض، محايد) لتوظيف المرأة محاسبة، وموقع القضية منه (رئيسي، فرعي، إشارة)، ومدى تضمنه حججاً للإقناع أم لا، ونوع الحجة (اجتماعية، اقتصادية، تاريخية، شرعية..)..إلخ.
قبل تحليل النتائج طرح المؤلف مدخلاً سجل فيه ملاحظات أولية على المقال في الصحافة السعودية. ومما جاء فيها أن المتلقي يقيِّم الكاتب من خلال مواقفه أكثر من إسهامه العلمي، فتغدو الجرأة أهم من المعرفة والموضوعية والدراسة.. فلا ينبغي أن تكون الشجاعة سبباً للتغاضي عن رداءة الأسلوب وتواضع المحصول المعرفي، مما يثقل الصحافة بكتابات للتعبير عن المواقف الشخصية قليلة الأهمية، تتطور إلى سجالات هامشية..
تلا ذلك مدخل آخر حول سؤال: لماذا لم يكن الكِتاب بحثاً كمياً؟ خلاصته أن المؤلف لم يهدف لذلك، بل لعمل نقدي لظاهرة اجتماعية في مقالات الرأي، من خلال الوصف والتفسير تساعد على التنبؤ والضبط. ورغم رأي المؤلف لعمله إلا أن البحث الكمي الإحصائي كان أساسياً في الكتاب وإن لم يكن قد ضُبِطَ منهجياً على الطريقة الأكاديمية بل كان أقرب للطريقة الأدبية.
بعد ذلك جاءت فصول الكِتاب الأساسية، وهي خمسة؛ عُرضت فيها ما توصل إليه المؤلف من نتائج رقمية ثم ملاحظاته وتحليلاته، مُقسماً كل فصل إلى ثلاثة أجزاء، الأول ملخص رقمي، والثاني ملاحظات عامة، والثالث ملاحظات تفصيلية نقدية.
أوضحت النتائج أن نسبة المقالات المؤيدة لعمل المرأة محاسبة بالأسواق كان 60 % مقابل 11 % معارضة، بينما المقالات المحايدة بلغت حوالي 30 %. وهنا إشكال منهجي بتحديد المحايدة، فكثير منها غير محايدة بل مؤيدة ضمنياً أو أن كُتابها سبق أن أعلنوا تأييدهم بمقالات سابقة، لكن مقالاتهم التي اعتبرها المؤلف محايدة كانت تحليلية لا علاقة لها بالموقف، فالأدق فصلها عن المحايدة في تصنيف خاص بها، كبعض مقالات عابد خزندار وبدرية البشر.
كيف نفسر أن غالبية المقالات مؤيدة؟ يطرح المؤلف أربعة احتمالات: الأول أنها انعكاس لأغلبية اجتماعية، والثاني أنها انعكاس لأغلبية معارضة مما تطلب مواجهتها بكم كبير من مقالات التأييد لإقناعها، والثالث أنها تعبير عن الاتجاه السائد لكُتاب الرأي، والرابع أن المعارضين اختاروا التعبير عبر وسائط أخرى.
من طريف النتائج، أن 47 % من المقالات خلت من الحجج، مكتفية بإعلان موقف كاتبها.. تلك نسبة ضخمة لمقالات لا تقول شيئاً مهماً مما يثقل صحفنا بإثارة خاوية معرفيا! البقية التي استعملت الحجج كانت نسبة الاقتصادية منها 47 % بينما الدينية كانت 16 %، والتاريخية مثلت 13 %، والسياسية 4.5 % من استعمالات الحجج.
من ملاحظاته الإجمالية يرى المؤلف أننا غالباً نتحدث عن آرائنا لكننا لا نتحاور فيها، بسبب اتساع مفهوم الثوابت الذي لا معنى للحوار فيه. ومن هنا تصير المناسبات المتجددة فرصة لتأكيد الموقف الصحيح لمواجهة الموقف الباطل. فمثلاً، قضية عمل المرأة من حيث المبدأ ما تزال محل نقاش، رغم مرور عقود على انخراطها في سوق العمل.
أما من ناحية اتجاه الصحف فأظهرت النتائج غلبة اتجاه التأييد لعمل المرأة كاشيرة على مقالات صحيفة الرياض وكذلك بنسبة أقل لصحيفتي عكاظ والوطن، بينما صحيفة الجزيرة أبرزت توازناً نسبياً في اتجاه مقالاتها بين المؤيدين والمعارضين.
خاتمة الكتاب طرحت الاستنتاج الرئيس بأن القضية الاجتماعية تدخل للصحافة بحدث مثير من بوابة الخبر، لتنشأ الموجة المقالية الرئيسة، تأخذ شكلاً يقترب من الخط المحيط بنصف الدائرة العلوي. ونتيجة لعدم الحسم اجتماعياً تبقى القضية حاضرة بعد نهاية الموجة المقالية، لا تبلغ مستوى الصفر، ولا تبتعد عنه.. حضور هامشي ينتظر حدثاً مثيراً متصلاً بالقضية يعيد إطلاق موجة فرعية تأخذ شكلاً قريباً من الموجة الرئيسة، لكن بارتفاع أقل وزمن أقصر.
وفي تقديري أن هذا الاستنتاج يحتاج تحديداً أفصح من هذا التشبيه التصويري المتماوج. كما أن الخاتمة تحتاج إفاضة أكثر مما هي عليه بصفحة واحدة. الكِتاب أيضاً يحتاج إلى فصلين أو أكثر بعد خاتمة الدراسة لكي يصبح كِتاباً، فلولا المدخلان الأولان قبل فصول الكِتاب لانتفت صفته ككِتاب وأصبح عبارة عن دراسة بحثية.
رغم كافة الملاحظات التي أشرتُ إليها بثنايا المقال، فالكِتاب -بتقديري- عمل منهجي دؤوب لتحليل مقالات الرأي بالصحافة السعودية في القضايا الاجتماعية الجدلية عبر مثال نموذجي، تناوله المؤلف بموضوعية فضلاً عن الاستناد إلى حقائق رقمية، تجعل هذا الكتاب من أهم المحاولات النقدية الجادة للمقال الصحفي السعودي.