لم تستفق باريس على خيوط النور الأولى التي تعلن النهار كسولاً في أيام الشتاء الباردة التي يطول ليلها، ولم تستيقظ أيضا على ثغاء الشجر والبشر والطيور وكل العابرين إلى مدينة الحياة والموسيقى والثقافة والموضة والفن، بل كان صباحها دامياً بلون حقد أولئك الذين عاثوا بأمنها واخترقوا الصحيفة الفرنسية شارلي ايبدو وقتلوا صحافييها، فزع القلب لما ألمّ مدينة النور باريس، باريس العشاق والأحبة، باريس الثقافة والفن، باريس موعدنا مع الأناقة والجمال والمقاهي المشرعة لسماوات تعانق مرتاديها، ولقهوة لا مذاق يضاهيها، لكن الكارثة أن تكون تلك الجريمة بأيدٍ مسلمة كما ورد، وأفواه رددت اسم الله (الله أكبر) وهي تقتل ضحيتها بدم بارد، إسلامنا الذي ينفر من القتل والغدر والخيانة يبرأ من هؤلاء وما تبت أيديهم، فهل أعود لفكرة المؤامرة وأقول إنّ هناك خيانة وتدابير كيدية حاقدة تريد بالإسلام شراً وفي هذا الوقت بالذات؟
هل أقرن ما حدث بانفجار برجي التجارة العالمي وما قيل عن مكيدة إسرائيلية؟ أم أستسلم لما أذيع أنها اقترفتها النظم الإرهابية جديدة العهد في العالم مثل داعش! أو القديمة كالقاعدة؟
لكني سأعود بالمشهد لخطاب الملك في العام الجديد والذي ركز فيه على محاربة الإرهاب والتطرف الفكري والذي يهدد أوروبا وأمريكا وليس العالم العربي فقط, واليوم صدقت نبوءة الرجل الحكيم ووجدناه يضرب باريس كالزلزال.
لم يكن ما حدث في صحيفة «شارلي ايبدو» إلا مشهداً حيوانياً ضارياً، وحدثاً يهدد القلم والصحافيين من جبناء عاثوا في الأرض فساداً، وجندت عقولهم منظمات إرهابية لا هدف لها إلا القتل وتفريق العالم، وإلحاق الضرر بالجاليات العربية في فرنسا وأوروبا والتي كانت تعامل هناك كالفرنسيين أنفسهم.
وعلى العكس من أحلامهم وتمنياتهم، فقد حظيت الجريمة باستنكار الشعوب كافة وقادتها وزاد عدد طبعاتها أضعافاً.
المهم في الموضوع أن تفاعلنا مع الجريمة النكراء لا يسقط تساؤلنا ورغباتنا أن يكون العالم عادلاً أيضاً ومتفاعلاً مع قضايانا العربية، فما مصير أطفال سوريا وفلسطين والعراق والإرهاب اليومي الذي يمارس ضدهم؟!
إن تفاعلنا مع الوقفة العالمية ضد ما حدث في فرنسا لا ينقص أبداً من وطنيتنا تجاه القضايا العربية الراهنة والتي يمكن لأصحاب الفكر الإرهابي أن يزيلوا اهتمام العالم عنها، كما لا يلغي استنكارنا لتعرُّض هذه الصحيفة لرمز العالم الإسلامي نبيّنا محمد صلى الله عليه وسلم برسوماتها المسيئة للإسلام ونبيّ المسلمين.
من آخر البحر للشاعر الفرنسي ألفونس لامارتين البحيرة
أهكذا أبداً تمضي أمانينا
نطوي الحياةَ وليلُ الموت يطوينا
تجري بنا سُفُنُ الأعمارِ ماخرةً
بحرَ الوجودِ ولا نُلقي مراسينا؟
بحيرةَ الحبِّ حيّاكِ الحيا فَلَكَمْ
كانت مياهُكِ بالنجوى تُحيّينا
قد كنتُ أرجو ختامَ العامِ يجمعنا
واليومَ للدهر لا يُرجى تلاقينا