حين وقعت جريمة الحادي عشر من سبتمبر عام 2001 في الولايات المتحدة، كانت المحطات التلفزيونية والإذاعات والصحف وكل وسائل الاعلام تتسابق لتغطية الحدث باعتباره أكبر جريمة في التاريخ تستهدف قلب الحضارة الغربية، وتخلق في رحم تلك الحادثة المأساوية مصطلح الإرهاب الذي عّم بعد ذلك ليصبح أحد أهم المصطلحات في أدبيات الخطاب السياسي، كان مصطلح الإرهاب موجوداً قبل ذلك لكن فظاعة القاعدة وصفاقة تهديداتها ومناطحتها للعالم جعلت من غول الإرهاب قرباناً لتشريعات وقوانين لم يكن المواطن الأمريكي والغربي عموماً ليقبل بها في ظروف طبيعية!
الحادي عشر من سبتمبر كان موعد انطلاقة الموجة الأولى من الإرهاب والصدام مع الحضارة الغربية، وقد صاغت نتائج ذلك الصدام العلاقات الدولية من جديد وقربت الأعداء وأبعدت الأصدقاء، ليتحول الموقف من الإرهاب ومواجهته الفيصل في الأجندة العالمية، وحين أوشك العالم على تجاوز هذه المرحلة وصياغة آليات من التعاون والتنسيق في مواجهته وانحسار النتوءات السلبية على جدار العلاقات الثقافية والسياسية كان المسلمون خلالها أكبر المتضررين، بدأت اليوم الموجة الثانية من الإرهاب بجريمة تستهدف حرية التعبير بقتل الصحفيين في صحيفة شارلي ابيدو في باريس قبل أيام.
من السهل أن تقود هذه المقدمة القارئ إلى وجود مؤامرة ممنهجة ضد العرب والمسلمين يستهدف أصحابها إلى عزلهم عن العالم وتقديمهم إلى الثقافات الأخرى باعتبارهم مجموعة من البرابرة الذين لايفهمون سوى لغة الدم والقوة، وعليه يمكن تبرير أي عمل أمني ضدهم شعبياً باعتباره ضرورة استباقية لإيقاف جريمة متوقعة، وسيجد اليمين المتطرف في كل مكان فرصة للتضييق على الهجرات وفرص العمل التي يمكن أن يمنحها الاقتصاد للمهاجرين وأبنائهم لتنمية مجتمعاتهم المحلية، وقد يقود التحليل أيضاً لأحداث كهذه إلى التأكيد أن هذه المؤامرة تستهدف تقديم نموذج أكثر تطرفاً للإسلام والمسلمين يؤكد أن ما يحدث ليس مجرد تصرف عابر لمجموعة من المهووسين بل هو ما يدعو له الإسلام ذاته... شخصياً أرى أن هذا المنحى من التحليل هو الجزء الأسهل في قراءة الأزمة بل إنه الجانب «التخديري» فيها والذي قد لا نرى غيره في خضم العاطفة!
الحقيقة والقراءة المتعمقة للحدث تكشف أننا لسنا وحدنا الأمة التي تنساق إلى عاطفتها فلا تذيب حرارة الأحداث إلا طبقة رقيقة من وعيها تجاه العالم، فالغرب الآن وللأسف ما يزال الصوت الأعلى فيه للدفاع عن حرية التعبير دون إدراك لحقيقة ان شريحة كبيرة من مواطنيه الذين يحملون جنسية بلادهم ويساهمون في بناء أوطانهم يرون في حرياتهم جزءا أصيلا بأن لا تمتهن رموزهم ومقدساتهم فتطلق يد العنان لكل عابث بالنيل منها بعيداً عن كل قيد، فإذا كانت حرية الانسان أقصى وأثمن ما يسعى العالم إلى حمايته فليكن احترام هذه الحرية باحترام ما اختارته لنفسها من عقيدة ورموز ينبغي ألا تفرضها على العالم لكن لا ينبغي بالمقابل أن تقدم المنابر والمنصات لاستفزاز المؤمنين بها.
ولا بد هنا أن نعترف أن ثمة حساسية مفرطة لدى العرب والمسلمين تجاه ثقافتهم تجعلهم عاجزين عن القدرة على مناقشة أخطائهم وسلبيات موروثات هذه الثقافة فيصنفون كل طرح نقدي أو سلبي باعتباره هجوما على الثقافة العربية والإسلامية ومعتقداتها، فحين ينتقد المسلم المتطرف لابد أن نشارك الجميع نقده بل ونشاركهم السخرية منه دون ان نشعر بالحرج أو الإهانة، ففي بعض المواقف المتشددة تجاه النقد الغربي لنا دلالة أكثر تأثيراً مما يمكن أن يطرحه النقد أو السخرية من تأثير!
لم يعد المسلمون اليوم مجرد حفنة من المهاجرين تنحصر علاقة المجتمعات الغربية بهم في نطاق ضيق محدود بل أصبحوا جزءاً مهماً ومؤثراً في مجتمعاتهم، يعكس سلوكهم وانتماءهم لثقافتهم ودينهم طبيعة علاقاتهم بالآخرين ويجسد وعي الآخرين بهم، هذا الوجود المؤثر يحاصره اليوم الاستسلام لردات الفعل العاطفية التي تتجاهل منطلقات الآخرين وثقافتهم، فيكفي لرجل مغمور في ريف دولة أوروبية ان يقيم العالم ولا يقعده لو أعلن أنه ينوي حرق نسخة ورقية من القرآن الكريم، وكأن هذا الفعل حرق للقرآن الكريم نفسه، ويكفي لصحيفة مغمورة أن تحظى بجماهيرية كبيرة إذا نشرت سخرية أو استهزاء بنبي الرحمة محمد صلى الله عليه وسلم، وكل هذا المجد الذي يحظى به هؤلاء نحن من يصنعه لهم!
لا أحد ينكر على الغرب أن ينتقد نموذج التطرف الإسلامي فهو نموذج لا يمثل الإسلام والمسلمين بأي شكل لكن بالمقابل لا يمكن أن نقبل استخدام هذا النموذج في التعريض برموز ومقدسات نؤمن ونعتقد بها، وعلى الغرب أن يدرك أن الإرهاب الذي يحارب شبحه في كل مكان ليس إلا بذور يتجاهل أنه يساهم في سقايتها ليل نهار بتجاهل قيم العدالة وترك العنان لاستعراض مهرجي الحرية وانتقاصهم لثقافات الشعوب ومعتقداتها تحت ذريعة حرية التعبير، المتطرفون في الغرب والمتطرفون في الشرق هم من يذكون نار الإرهاب والقتل والدمار والفرقة بين الشعوب فإن لم يوقفهم العقلاء احترق الجميع! وكما لا ينبغي للعقلاء أن يبرروا أي جريمة بذريعة توصل للإرهاب فإن المنطق أيضاً يلزم ألا يمكن تبرير الاهانة والسخرية من معتقدات الآخرين بدعوى الحرية!