من النادر أن نجد اليوم أحداً بلغ الستين عاماً ويعتبر نفسه من كبار السن. أما قبل ثلاثين أو أربعين عاماً فلا يندر أن يوجد من يعتبر نفسه بالستين عاماً طاعناً في السن! والسبب في هذا الاختلاف بين جيل وجيل قد لا يعود بالضرورة لتطوّر الأفكار، بل لتطوّر الأعمار.
فقد ارتفع معدل العمر المأمول من (61) عاماً في 1405هـ إلى (75) عاماً في 1435هـ.. وهذا راجع بفضل الله إلى تحسّن المؤشرات الصحية والمستوى المعيشي.
ولكنّ حدّ السن القانونية للتقاعد لم يتطور، بل هو متوقف عند الستّين عاماً. لذلك نعتبر كلّ من تجاوز الستّين -سواءً كان من المتقاعدين أو من غيرهم- في عداد كبار السن، إحصائيّاً. واستناداً إلى بيانات مصلحة الإحصاءات العامة والمعلومات عن عام 1428هـ، فإن نسبة من تجاوزوا سنّ الستّين من السكان السعوديين يبلغ في الوقت الحاضر 5 % - حوالي مليون شخص.. هذا العدد يشمل أصحاب الأعمال والحرف الحرة، كما يشمل المتقاعدين من الوظيفة الحكومية أو الخاصة، وكذلك يشمل من يتقاضون إعانات من الدوله كالضمان الاجتماعي؛ جميع هؤلاء ينفقون على أنفسهم وعلى من يعولون من مصادر دخلهم الشحيحة أو الثريّة أو ما بينهما.
كبار السن إذن ليسوا عالة على المجتمع، بل هم بما ينفقون وينتجون -قليلاً أو كثيراً- شريحة اجتماعية ذات وزن اقتصادي. لكنّ لهم وزناً آخر لا يقلّ أهمّية. فإنهم حفظة على الدين وناقلون للتراث الشفهي وأمناء على التقاليد، ولذلك هم يحملون جذور الهوُيّة الثقافية للمجتمع. وما هذا إلا جزءٌ من وزنهم الاجتماعي؛ أما الجزء الآخر فيتمثل في دعم الترابط الأسري والاجتماعي. ومن ذلك -كما هو مألوف وملموس- التقاء أفراد العائله حول أكبرهم سنّاً وتقدير منزلته، وعناية الجدّ والجدّه بالأحفاد عندما يكون الوالدان بعيدين عنهم (كم من امرأة تريح بالها بوضع أطفالها عند أمها أو أم زوجها ريثما تعود من عملها!). بل وأكثر من ذلك هم يحفظون الابنة المطلقة أو الأرملة أو الأحفاد اليتامى من الضياع. تلك أمثلة لبعض المهام التي يؤديها كبار السنّ لمجتمعهم. فماذا يحصدون مقابل ذلك غير النكران؟.. وماذا يمكن تقديمه لهم؟.
أولاً: نسبة كبيرة من كبار السن متقاعدون وغيرهم ذوو دخل منخفض لا يكاد يفي بحاجاتهم المعيشيه، ويفصل بينه وبين حدّ الكفاية ثغرة يجب ملؤها بأكثر من وسيله:
أ- رفع الحد الأدنى للمعاش (للمتقاعدين).
ب- زيادة مخصصات منسوبى الضمان.
ج- إتاحة فرص عمل خفيف تناسب أعمارهم.
د- النظر في رفع سنّ التقاعد إلى (65) سنة.
ثانياً: نسبة أخرى ذات خبرة إدارية وفنية كبيره -وتقاعدت- من عملها السابق، لا ينبغى إهدار قدراتها، بل علينا الاستفادة منها -خارج التشكيل الوظيفي حتى لا تقلّ فرص التوظيف أمام الشباب- في التدريب والتقييم والمشوره ونحوها. وهو أمرٌ معمولٌ به في بلدان متقدمه تتعدى البطالة بها 5 %.
ثالثاً: كبار السن يحرصون على رابطة الجوار في الحي وعلى فعل الخير، ولذلك ينبغى استمالتهم للمشاركة -حسب الطاقة- في العمل التطوعي وفي اللجان الاجتماعية والجمعيات الخيرية ونحو ذلك.
رابعاً: يحظى كبار السنًّ كما نلاحظ في دول نزورها بحزمة من التخفيضات والتسهيلات في الأماكن العامة مثل المتاحف والآثار والمتنزهات وفي وسائل النقل العام وغيرها. ونحن لمثل هذه المراعاة الخاصة أحوج، باعتبارها حقاً من حقوقهم وصورة من صور التقدير.
رابعاً: على أن ما يثير العجب هو رفض البنوك إقراض كبار السن بعد تجاوز سنٍّ معينة يحددها البنك. الحجة الاقتصادية جاهزة، وهي تحاشي مخاطر عدم السداد بسبب الموت مثلاً. وكأن البنوك نسيت أن هؤلاء الكبار كانوا من قبْلُ يودعون لديها ما يحصلون عليه من دخل فيسهمون في ملء خزائنها لتستثمر وتربح. أو كأنها لا تملك ضوابط لتقليل المخاطرة، مثل تحديد مدة السداد ومبلغ القرض بما يتناسب مع العمر أو المعاش (للمتقاعدين) أو تقديم ضمان مقبول. ولكن مهما كانت الحجج فإنها لاتبرّر الصدّ المهين لطالب القرض لا سيّما في بلد من أخلاق أهله توقير الكبار. ثمّ إن كبير السن في كثير من الأحيان لا يطلب القرض لنفسة، بل لمساعدة أحد أولاده، إماّ للزواج أو لتأثيث بيت أو لشراء سيارة... إلخ.
خامساً: أمّا ما يثير الاستغراب فهو موقف منظمات التأمين الصحي من قبول التأمين على من بلغ الستين أو تجاوزها بقليل.. فهي إمّا أن ترفضه أو تضاعف أقساط التأمين عليه. والحجة المعروفة هي أن الشيخوخة محفوفة بمخاطر صحية كبيره تستنزف أموال منظمة التأمين على حساب بقيّة المؤمن لهم. لكنّ هذه الحجة خالية من المنطق. فإن كبار السن هم الأقل دخلاً والأكثر حاجة للعناية الطبيه. فقد قامت وزارة الصحة بالتعاون مع المكتب التنفيذي لوزراء الصحة بدول مجلس التعاون في عام 1428هـ بدراسة عن صحة كبار السن أظهرت أكثر الأمراض شيوعاً بينهم وهي: آلام المفاصل (65 %)، الضغط(50 %)، السكري (47 %)، اعتلال البصر (41 %)، اضطرابات التمثيل الغذائي (26 %)، ضعف السمع (21 %)، أمراض الجهاز الهضمي (14 %). وهذه الأمراض ليست بالضرورة ناشئة عن الشيخوخة في حد ذاتها، بل ربما نشأت قبل ذلك بسنوات عديده، ثمّ استفحلت مع تقدّم العمر.
كما أن أساس فلسفة التأمين هو أن أقساط التأمين التي يدفعها الأصحّاء هي جزءٌ مما يُنفق لعلاج المرضى سواءً كانوا شباباً أو كهولاً أو شيوخاً. لذلك يجب عند تطبيق التأمين الصحي التعاوني على كل المواطنين أن يكون كبار السن أوّل من يستفيد منه. أما في الوقت الحاضر فيجب إلزام الشركات بقبول من يرغب الاستمرار في التأمين لديها بعد بلوغ الستين بنفس المنافع، وهذا الترتيب يُعمل به مثلاً في ألمانيا. وأخيراً نقول: دون التقليل من الجهود المشكورة التي تبذلها الجمعية الوطنية للمتقاعدين، وخاصة ما حققته من بعض المزايا في القطاع الخاص.. إن قبول أيّ مطالب تخصّ كبار السن لن يكون له أثر إلا إذا تبنّت الدولة تلك المطالب كحق لكبار السن عامة، ووضعت لها قواعد نظامية واجبة التطبيق.