إنّ المتأمل في واقع مجتمعاتنا الإسلامية ليلحظ ما آلت إليه الكثير من هذه المجتمعات من تمزق وشتات ودماء تراق على كل أرض، بل أضحت بعض الدماء ـ التي حرمها الله ـ أرخص من ثمن الرصاصة التي تسال بها.
لكن المتأمل بعين الباحث، والقارئ للتاريخ يرى جليّاً أنّ كل فتنة في أي بلد منشؤها الأول يكون في الانحراف فكرياً والشطط في مغبات الجهل، وتتبع الشاذ من قول العلماء - ولو كان يخالف نصا تشريعيا - فكم من سيف أخرج من غمده بسبب بني على معتقد فكري فاسد، وكم من دماء أحلت لهوى يُتبع، أو لقول ضالٍ.
لقد أمرنا الله بالتوسط في كل أمور حياتنا، ولعل من أهم ما يجب أن يُعنى به هو الفكر الذي من خلاله تتشكل مفاهيم حياتنا، ومنه تنطلق معتقداتنا، وعليه تُؤسس تصرفاتنا، فالتوسط فيه مطلب بل غاية، فلا يستقيم مجتمع يقوده فكر متشدد، ولن ينعم بسلامٍ مجتمع يتأرجح بين فكر مستورد لا يتواءم مع ما ارتضاه الله لبني البشر، فالله - المشرع - ارتضى لنا الإسلام دينا، الإسلام دين الوسط بكل شموليته وفهمه الصحيح، لا الإسلام الذي يتشكل خلف أهواء نفسية قال تعالى « {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا}.
جعل الرسول - صلى الله عليه وسلَّم - مَنْ توفر له الأمن كمن حيّزت له الدنيا كلَّها، فقد أخرج الترمذي - وحسَّنه الألباني - (عَنْ سَلَمَةَ بْنِ عُبَيْدِ الله بْنِ مِحْصَنٍ الْخَطْمِي عَنْ أَبِيهِ وَكَانَتْ لَهُ صُحْبَةٌ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلَّم - : « مَنْ أَصْبَحَ مِنْكُمْ آمِنًا فِي سِرْبِهِ، مُعَافى في جَسَدِهِ، عِنْدَهُ قُوتُ يَوْمِهِ فَكَأَنَّمَا حِيزَتْ لَهُ الدُّنْيَا».
إن الأمن الفكري يتعلق بالعقل، والعقل هو آلة الفكر، وأداة التأمل والتفكر، الذي هو أساس استخراج المعارف، وطريق بناء الحضارات، وتحقيق الاستخلاف في الأرض، ولذلك كانت المحافظة على العقل، وحمايته من المفسدات، مقصداً من مقاصد الشريعة الإسلامية وسلامة العقل لا تتحقق إلا بالمحافظة عليه من المؤثرات الحسية والمعنوية.
ومن المعلوم أن علماء الأمة تحدثوا عن الأمن وعرفوه بمعانٍ متقاربة يقول الجرجاني الأمن هو: (عدم توقع مكروه في الزمان الآتي ويقول الراغب عن الأمن: (أصل الأمن طمأنينة النفس وزوال الخوف)، وفي وقتنا المعاصر شاع مصطلح الأمن الفكري كركيزة لمجتمع خالٍ من كل شطط وغلو، ولعل أبرز تعريف للأمن الفكري هو أن يعيش الناس في بلدانهم وأوطانهم وبين مجتمعاتهم آمنين مطمئنين على مكونات أصالتهم، وثقافتهم النوعية ومنظومتهم الفكرية.
إنّ مسؤولية الأمن الفكري، والحفاظ عليه، مسؤولية مشتركة بين كافة مؤسسات المجتمع وأفراده، فالأسرة، والمدرسة، والجامعة، والمسجد، وغيرها، كلٌّ له دور يضطلع به. يقول الرئيس العام لشؤون المسجد الحرام والمسجد النبوي وإمام وخطيب المسجد الحرام معالي الشيخ الدكتور عبد الرحمن السديس في إحدى خطبه: « ومع أنَّ الأمن بمفهومِه الشامل مطلَبٌ رئيس لكلِّ أمّة إِذْ هو ركيزَة استقرارِها وأساسُ أمانها واطمئنانها، إلا أن هناك نوعًا يُعدَ أهمَّ أنواعِه وأخطرَها، فهو بمثابةِ الرأس من الجسَد لِما له من الصِّلة الوثيقةِ بهويّة الأمّة وشخصيّتِها الحضارية، حيث لا غِنى لها عنه، ولا قيمةَ للحياة بدونه، فهو لُبّ الأمن ورَكيزتُه الكبرى، ذلكم هو الأمن الفكريّ. فإذا اطمأنَّ الناس على ما عندهم من أصولٍ وثوابِت وأمِنوا على ما لدَيهم من قِيَم ومثُلٍ ومبادئ فقد تحقَّق لهم الأمن في أَسمى صوَرِه وأجلَى معانيه وأَنبلِ مَراميه».
كما ينبغي الحرص أيضاً على مراقبة الأبناء وتوجيههم في تعاملهم مع التقنيات الحديثة فهي نافذة لتبادل المعلومات والاطلاع على الثقافات وفيه المفيد والسيئ، والحسن والقبيح، فعلى الشاب أولاً أن يحرص غاية الحرص، على ألا يجعل لأرباب الفكر الضال على عقله طريقا، وذلك بعدم الاطلاع على مواقعهم أو كتابتهم حتى من باب الفضول؛ فقد تقع الشبهة ويصعب تداركها، ويحسن بالآباء مراعاة ذلك والتذكير به.