الشعارات والأطروحات التي تمحورت حول الإسلام هو الحل، من خلال إقامة الدولة أو الحكومة الدينية، الحاكمية لله، الخلافة أو الإمارة الإسلامية، ولاية الفقيه، والتي تصب جميعها في تكريس سلطة دينية (ثيوقراطية) استبدادية مفارقة للواقع والحياة والعصر،
وذلك من منطلق أن ما صلح به أمر المسلمين في ماضيهم سيصلح به حالهم اليوم وفي المستقبل إلى أن تقوم الساعة.
هذا الخطاب الإسلاموي المجلبب بالشعارات السلفية المتشددة، الذي يفتقر إلى المقاربة الملموسة للواقع المعقد والمتغير والمتناقض كما يفتقد البرنامج الواقعي إزاء مختلف القضايا والمشكلات السياسية، الاقتصادية، الاجتماعية، والثقافية المعقدة، يصل في ذروته إلى تسويغ الإقصاء، التطرف، العنف، والإرهاب المادي والرمزي ضد الآخر (القريب والبعيد) المختلف، وصولاً إلى تفجر صراع الهويات الدينية والطائفية والقبلية المدمر للأوطان والمجتمعات كما هو ماثل اليوم للعيان في العديد من الدول العربية والإسلامية. في التحليل الأخير أن تلك الجماعات على اختلاف توجهاتها المذهبية (السنية والشيعية) غير معنية بفرضيات واشتراطات تتعلق بالدولة المدنية والديمقراطية وحقوق الإنسان والحريات العامة والفردية، واستيعاب وقبول حقيقة أنه لا تناقض بين تلك الأطروحات وبين الإسلام في جوهره الصحيح، بل تعتبرها بمثابة ردة وأفكار «تغريبية» ينبغي التصدي لها ولمتبنيها كواجب ديني في الظاهر، غير أنه يخفي أهدافاً سياسية وأيديولوجية تسعى إلى بسطها وفرضها كمقدمة لتنفيذ مخططها في إقامة سلطتها الدينية الاستبدادية.
التعديلات التكتيكية للخطاب المعلن الذي أجرته جماعات الإسلام السياسي وبخاصة جماعة الإخوان المسلمين بتخليها الظاهر عن شعاراتها الفاقعة المعروفة، وتبنيها للدولة المدنية، وذلك بهدف استمالة الجماهير وتبديد مخاوف الغرب، غير أنه سرعان ما تكشف زيفها على أرض الواقع.
وفي المقابل لا يمكن تجاهل وجود تطورات إيجابية ونوعية على صعيد الأطروحات والممارسات لبعض تيارات الإسلام السياسي كما هو الحال مع حركة النهضة في تونس وحزب التنمية والعدالة في المغرب.
وفي المقابل، نلحظ توجه بعض الجماعات والتيارات «الحداثية» التي ترفع شعار الدولة المدنية الهروب إلى الأمام والتماهي مع الآخر (الغرب) وتبني فرضياته واقتراحاته كوصفة جاهزة ومحاولة تعميمها وفرضها بصورة إرادوية على الواقع المعقد والمتناقض والمتباين في سيرورته وتحولاته. في كلتا الحالتين هناك تجاهل وقفز على تشخيص الواقع (الزمكان) وتحولاته وتناقضاته، وبالتالي تلمس احتياجاته ومتطلباته واستحقاقاته.
حال العجز والضعف وغياب البديل الديمقراطي يعود إلى عوامل موضوعية وذاتية، خارجية وداخلية، وتستند إلى بنية تاريخية مجتمعية أبوية ذكورية متخلفة ومقفلة تمتلك تراثاً عريقاً من الثقافة الاستبدادية -الشمولية - الغيبية - الأسطورية التي سقطت أو تراجعت في كل أنحاء المعمورة ما عدا المنطقة العربية (وبعض البلدان الإسلامية) التي ظلت عصية على التغيير، وهو ما دفع ببعض المستشرقين والمنظرين والمحللين الغربيين إلى الحديث (قبيل الثورات العربية) عن «الاستثنائية العربية» في الموجات الديمقراطية المتتالية التي شهدها العالم.
تفجر ما سمي بثورات الربيع العربي منذ أواخر عام 2010 والتي بدأت في تونس ثم انتقلت بسرعة كالنار في الهشيم لتشمل دول عربية عدة، وطال تأثيرها عموم المنطقة العربية، أحيت الآمال في إمكانية تجاوز حالة الاستثناء والاستعصاء إزاء الخيار المدني - الديمقراطي، غير إن هذا التفاؤل بمستقبل أفضل للشعوب العربية، سرعان ما تبدد وذلك لعوامل داخلية وخارجية عدة من بينها أن لم يكن في مقدمتها ضعف وتشتت القوى المدنية، وقد تكون تونس الاستثناء الوحيد نظرا للدور الوازن والمرجح للقوى المدنية - العلمانية فيها إلى جانب الواقعية والاعتدال التي اتسمت بها أكبر وأقوى الجماعات الإسلامية والمتمثل في حركة النهضة وهو ما تجسد في الانتخابات التشريعية والرئاسية الأخيرة.
البيات الحضاري الطويل والعزلة عن المسار العالمي للتطور (المتمثل تحديداً في الحضارة الغربية) الذي عاشته المجتمعات العربية والذي دام مئات السنين من هيمنة الاستبداد، التخلف، الجهل، الإلحاق، والتبعية، سواء في فترة هيمنة السلطة العثمانية الاستبدادية، أو إبان السيطرة الاستعمارية (الكولينيالية) الغربية ألتي أضفت مسحة حداثية شكلية وفقاً لمصالحها وهو ما انعكس في تخلف البنية التحتية في المجتمعات العربية والتي تشمل العلاقات الاقتصادية، الإنتاجية، والاجتماعية، واستمرار تأثير التكوينات القبلية، العشائرية، والطائفية التقليدية الراكدة والمحافظة بطبيعتها. كل ذلك أدى إلى هشاشة وضعف وهامشية الطبقات الاجتماعية الحديثة (برجوازية وطنية، طبقة عاملة، وطبقة وسطى) التي تشكلت لاحقاً، وتصدر الشرائح الطفيلية من البرجوازية الوسيطة (الكمبرادورية) والبرجوازية البيروقراطية التي استفادت واغتنت من تحكمها في مكونات السلطة والقوة والثروة، كما نشير إلى جوهر البناء الفوقي الذي يشمل أنساق السلطة للدولة الاستبدادية - الرعوية، وطبيعة الوعي الاجتماعي، المعرفة النقلية، الثقافة والأفكار التقليدية السائدة.
علينا أن نقف عند حقيقة الغياب الفعلي لمفهوم الدولة - الأمة القائم على العقد الاجتماعي بين السلطة والشعب، الذي يضمن احترام حقوق الإنسان، والمشاركة الشعبية، وترسيخ مفاهيم الحرية والمواطنة والمساواة والعدالة للجميع. وفي الواقع ليس النظم العربية تفتقد إلى التقاليد الديمقراطية والمدنية فقط، بل يشمل ذلك غالبية النخب والأحزاب والتيارات السياسية والفكرية، على اختلاف توجهاتها السياسية ومرجعياتها الأيدلوجية، الليبرالية والقومية واليسارية، والتي كانت حتى الأمس القريب تفتقر إليها على الصعيد العملي بغض النظر عن شعاراتها وبرامجها المعلنة، ونتلمس ذلك في بنيتها التنظيمية الداخلية وفي علاقاتها مع التكوينات الأخرى المغايرة حيث الفوارق بينها ضئيلة على هذا الصعيد. وللحديث صلة،،،