من أبجديات الوعي السياسي أن ثمة فرقاً هائلاً بين الحكومة والوطن أو الدولة، فالدولة بمفهومها التاريخي الجمعي لا يمكن أن تكون عرضة للنقد أو التجريح، بينما تعتبر الحكومة مجموعة من المؤهلين الذين يتم اختيارهم بصفة مؤقتة وبمعايير مختلفة حسب اختلاف الأنظمة السياسية، ويقومون بإعداد وتنفيذ البرامج التنموية في مختلف القطاعات، ويحضون بثقة كبيرة هائلة لإدارة الميزانيات المعتمدة.
كان من عثرات الوعي السياسي في الماضي أن يعتبر انتقاد مسؤول تنفيذي في الحكومة اعتداء على هيبة الدولة، وكان الناقد يجد نفسه في موقع لا يحسد عليه عندما يتم إسكاته، لأنه انتقد أداء مسؤول عام في الحكومة التنفيذية، لكن تطور الوعي السياسي في المجتمع ظهر في تطبيقات الإعلام الحديث في البلاد، فالنقد حراك إيجابي يصب في مصالح الوطن العليا، ويظل الوطن يعلو فوق كل نقد.
لذلك عندما تقرر السياسات العليا في الدولة ضخ المبالغ الضخمة في دفع التنمية، فإن أعضاء الحكومة التنفيذية عليها مسؤولية كبري لتقديم أولاً خطة عمل للمشروعات القادمة، ثم إعلان نتائج التنفيذ للخطة في نهاية السنة المالية أمام مجلس الشورى، ولعله إجراء يتم إتباعه، لكنه لا يحظى بتغطية إعلامية جيدة أمام المجتمع.
على سبيل المثال تم تخصيص 217 مليار ريال لقطاع التعليم العام والتعليم العالي وتدريب القوى العاملة بما يمثل حوالي نسبة (25) بالمئة من النفقات المعتمدة بالميزانية، فيما بلغ ما خصص لقطاعات الخدمات الصحية بالقطاعين (المدني والعسكري) والتنمية الاجتماعية حوالي (160) مليار ريال، وتم تخصيص مبالغ ضخمة لمختلف القطاعات.
عندما أنظر لتلك الأرقام بجميع أصفارها التي علي اليمين، أصاب بهيبة الموقف، وأشعر بعظم مسؤولية معالي الوزير المكلف لتحويل تلك الأرقام إلى حقائق تنموية على الأرض، وفي بعض الأحيان أشعر أنهم أي المسؤولين في موقف لا يُحسدون عليه، فالأرقام خيالية، والنتائج إذا لم تكن ذهبية، فثمة خلل في برامجهم التنموية في تلك القطاعات، وأن لا مجال للفشل في هذا العصر إذا توافرت المعرفة والمادة في خطة العمل.
لهذا السبب كنت أرجو كمواطن بسيط يعشق هذا الكيان لدرجة التطرف، أن يتم فتح قنوات للشفافية بين المسؤول وبين المجتمع، وذلك لأخذ فكرة مبسطة عن المشاريع المقبلة، ثم لاحقاً عن تفاصيل المنتج النهائي بعد اكتمال مراحل التنفيذ الأولية أو النهائية، وتكون قاعة مجلس الشورى الميدان الذي تلتقي في داخله الأسئلة والأجوبة بين الأعضاء المعينين وبين المسؤول التنفيذي المكلف بتنفيذ الميزانية المعتمده في القطاع الخدمي.
أري أن هذه الخطوة في غاية الأهمية لمعالجة تلك الأسئلة التي لا تتوقف عن الدوران في المجتمع عن نتائج الميزانيات الضخمة والتي حرص خادم الحرمين حفظه الله طوال السنين الماضية في توفيرها لتنفيذ المشاريع المعتمدة من قبل المسؤولين في الحكومة، ولعل كلمة خادم الحرمين حفظه الله وأطال في عمره للوزراء، «مابي اقعد اعلمكم ابيكم انتم تعلموني»، خير تعبير عن تلك الرغبة في المعرفة.
وربما يُفهم أيضاً من تلك العبارة الثمينة أن ثمة فرق بين الدولة وبين الحكومة، والتي من المفترض أن تكون الحكومة التنفيذية شفافة في أدائها للدولة أو الوطن الممثل بالقيادة التاريخية والمجتمع، واللذان يشكلان أركان الوطن بكل ما تعنيه الكلمة، لهذه الأسباب يجب أن تكون للشفافية كلمة أكبر في المستقبل، فالتاريخ لن يرحم النتائج المخيبة لآمال الوطن بعد تخصيص متواصل لميزانيات خيالية أن صح التعبير.
خلاصة الموضوع أنني أدرك أن هناك أنظمة معتمدة للمحاسبة الحكومية في مختلف القطاعات، وأن الأنظمة الإدارية تنص على ذلك، لكني ما أبحث عنه هو إطلاق مفاهيم جديدة للشفافية والمحاسبة بين المسؤول والمجتمع، وإدخال الوطن إلى مرحلة الأجوبة عن الأسئلة التي لا تتوقف عن الظهور، ولن يحدث ذلك بدون فتح قنوات أكبر للشفافية بين الحكومة التنفيذية وبين المجتمع، ولهذا لا زلنا ننتظر الكثير من الحكومة في ظل الطفرة المادية الحالية، والله على ما أقول شهيد.