في الطفولة.. يحملك طيشك على حب الأصدقاء الذين يشاطرونك هذا الطيش، ويقاسمونك ألعابهم، وحلواهم.. ويفتح علبة العصير فيناولها لك أولاً لتشرب، ثم يكمل ما تبقى.. تقبل من يده قطعة الشوكولا التي ذابت وتدنست في جيبه إلا أنها ألذ وأطعم.. تصافح يده التي تمرغت في تراب،
وعندما تأتي أمه لتوبيخه تقحم نفسك في ذلك، وتدعي أنك الذي حثثته على هذا الأمر.
في مرحلة المراهقة.. تغامر الأصدقاء الذين يرونك تلقي بنفسك للتهلكة، ويرمون أنفسهم قبلك، ثم إن رميتَ نفسك حملوك بأجسادهم المتهالكة، الذين يتبرؤون منك للتأديب، لا للتخلي، للاتعاظ، لا للامتعاض، الذين يجعلونك تنام ويسهرون نيابة عنك، ويقحمون أنفسهم في الخطأ لأجل سلامتك وإعفائك منه.
في مرحلة ما، نحن لا نبحث عن الناصحين الذين يوجهون لك محاضرات، ولا رؤساء لو أحدثنا زلة قاموا بإقصائنا.. الأصدقاء تجارب ومواقف.. نحن نحتاج إلى أن نقحم أنفسنا في كل أمر حتى نعي حجم الكارثة التي كادت تقع لولا لطف الله ثم إحاطة الأصدقاء بنا.. نحن نعي حجم الخطأ حين التدنس به، تماماً كالمسرف في حياته حين يتوب لله يبكي دم قلبه؛ لأنه تجرع الخطيئة. شد بيدي طوال الطريق الحياتي، وإن أقدمت على خطأ اصفعها. المهم لا تتركها. نحن لا نشتهي العيش فرادى. الأصدقاء الروح الممزوجة بطين الجسد، لو انسلخت أماتك الله في جسدك الذي ما زال يمشي فوق الأرض.
كيف أدرك أنك الصديق الصدوق الباقي المخلد لعمري، حين أنظر لعيونك فأسأل نفسي: أأنا أنا، أم أنت أنا؟
هذا السؤال المعقود في كل رسالة تصلني في أي حساب لي في التواصل الاجتماعي، لماذا لم يعد هناك صديق العمر؟
ويأتي السؤال المتبوع: شريفة، هل الخطأ من قلوبنا العتيقة التي تعلمت منذ الصف الابتدائي أن أول أمر تقوم به (اختر صديقك)، وأول تعبير تُنشئه عن الصداقة، وأول سؤال نسأله من صديقك المفضل؟ وأول حرف نزين به دفاترنا حرف صديقنا.. هل من المفترض أنه في عصر التقنية نبدل معارفنا.. نشحن حتى قلوبنا.. نتخلى عن إصداراتنا القديمة بإصدار أحدث؟ مَثل الحياة والصديق كمثل نفسك وأنت خارج في رحلة للاستجمام والانشراح والطيران من ضغوط الحياة إلى الراحة والاسترخاء، فيقع حادث سير، فتموت على الفور، بلا أن تتعذب بجراحك، أو ترى حجم كسورك من الارتطام.. إن نزع الله من حياتك الأصدقاء فلا حياة لك.
من لا صديق له يعيش في جانب مظلم من الحياة، وإن حباه الله نجاحاً أو إنجازاً، أو حتى مالاً..
الآن، أخبرني صور النجاحات، دروع الإنجازات، شهادات التقدير.. ما كان لها نصيب منك إلا حائط في دارك، تجمِّله بها، وتنظر لنفسك مع كل صباح بابتسامة رضا.. إلا أنه في حال كان حولك مشهد أصدقاء فسيحملون درعك، ويحملونك على أكتافهم، وسيأخذونك في رحلة تقافز بين الأرض والسماء، بين الحرية والانتماء، يرفعونك للعالي حتى يجعلوك ترى مرتبتك، ويعيدوك لأحضانهم حيث مكانتك المخلدة في صدروهم، ويطبعون قُبلاتهم أوسمة فخر بك، وسيرقصون محدثين ضجةً في العالم، تُسمع القاصي والداني بك.. ستشهد في أعينهم مراسم الاحتفال، وفي رقصاتهم أعياداً.
الصديق ما كان مَلَكاً منزَّلاً؛ إنه الإنسي المكمِّل لك، الحجيرة الخامسة في القلب، والرئة الأساسية، والهواء النقي لشُعبك الهوائية، الخالي من كل إشعاعات الحياة وتلوث العمران والتقنية.. لذلك أخطاؤه لا بد لها من غفران، وزلاته لا بد لها من تجاوز.. أنظرت يوماً لداخلك؟ ربما أنت بسوءات لا تقدر نفسك على أن تحملها وتتحملها.. وحده ذاك الصديق كمَّلك بعينه، وجمَّلك بعيون الناس.
إلى أصدقاء العالم: فجوات الأيدي للالتحام، حجيرات القلب للسكنى، قوانين الحياة للاختراق، الاستقامة لا بد لها من ميلان ونزوح، الإنجازات والنجاح لا بد لها من رقصة، أنتم من بمقدوركم القيام بذلك.. دمتم للآخرة.