لا أمتشق حسامي في المعارك الخاسرة، ولذا لم أكن من الملبّين لنداء الاحتراب الذي قاده رهطٌ من أبناء جيلي.. ممن تربوا على المدارس القديمة في عالم الصحافة، متنادين للاصطفاف ضد هجمة الصحافة الإلكترونية، متمترسين خلف صحافة الورق باعتبارها معركة حياة أو موت!!
كانت الحكمة ضالتي، فكيف لا أتسم ببعض الحكمة في هذا العمر، بعد أن أهدرت سنوات كثيرة في شطط القول والجهد، فخرجت من تلك السنوات وليس في جسدي مكان خال من ضربة سيف أو رمية رمح!!
نعم، كنت من المتريثين في تقييم ما يجري، فقد تعلمت أن الحكم السريع على المستجدات، خصوصاً في عالم الميديا، لا يمكن أن يصيب مرامه، بعد أن رأيت وكثيرون من لدّاتي، كيف انتقلنا بسرعة الضوء من صحافة جمع الحروف بالرصاص، وإزهاق الوقت في عمليات التصوير والمونتاج اليدوية المضنية.. إلى عالم إسفيري ساطع، تتحكم فيه لوحة المفاتيح الحاسوبية، فننتقل لدنيا غير دنيانا التي خَبِرنا، ونتعامل مع واقع لم نكن لنحلم بأننا سنراه ونحن على قيد الحياة.
كثيرٌ من أقراني عاشوا ما يشبه الهلوسة من المستجدات، ولذلك راهنوا بجسارة على أن صحافة الإنترنت هي فقاعة لن تلبث أن تزول، مشيرين بعاطفة جياشة إلى أن علاقة القارئ بالصحيفة الورقية علاقة حب مجنون لا انفصام لها، وأن أي محاولة للتلاعب في هذه العلاقة.. سيكون مصيرها فشلاً حتمياً.. لا جَرَم!!
قربي الشديد مما كان يدور في الساحة، جعلني جزءاً من الحراك الذي كان يجري، خصوصاً وأنني ممن تشرفوا بقضاء سنوات طويلة في بلاط (الجزيرة)، وعشت عصور ما قبل الحاسوب.. ثم عصور الحوسبة الخجولة ودخول الفاكس والمايكرو فيلم.. إلى عصر الانفجار الكبير والذي كان نتاجه ريادة الجزيرة كأول صحيفة في المملكة تضع محتواها الإعلامي في موقع إليكتروني، وهي الخطوة التي جعلت الصحيفة تتحكَّر بجدارة في مقدم الركب الإسفيري.. ريادة، وقدرة على استقراء الأفق.
لم أمتشق حسامي للاحتراب، فكيف أفعل وأنا الآن في الخرطوم، وأطالع (الجزيرة) كل صباح، تماماً كما يطالعها عشرات الآلاف من الناس سواء في الرياض.. أو في أي بقعة في العالم؟!
واضح أن الصحافة الإلكترونية، أو تسخير الإسفير لخدمة الصحافة الورقية هو واقع جديد باهر التأثير، وله إضافاته التي لا يغالط فيها إلا مكابر. كما أن الآفاق التي تفتحها تقنيات الحاسوب أمام الصحافة تبدو بلا سقوفات، وهو ما يجعل الانجراف العاطفي بعيون مغمضة نحو صحافة الورق.. مجازفة فكرية ورهاناً استثمارياً عالي المخاطر.. في عالم لا ينتظر من يتوانى عن مجاراة ركبه الراكض.
لكن الأمر، على أي، لا يعني أننا بتنا على مقربة من تشييع صحافة الورق إلى مرقدها، فالصحافة الورقية ستظل مزدهرة ومرغوبة ومتطورة، هذا لمن يحسن التعامل مع مستجداتها، حتى في ظل تنامي الصحافة الإلكترونية، سواء تلك التي تصدر ابتداءً بعيداً عن الورق، أو تلك التي تصدر ورقياً وتدّخر محتواها الإعلامي أيضاً لقارئ الإنترنت، وهو قارئ لا يمكن إنكار وجوده.. أو التغاضي عن تنامي فئته في وقتنا الراهن.
ما أتصوره، أن الصحافة الورقية ستسير كتفاً بكتف مع الصحافة الإسفيرية، وأن هذا أقصى ما يمكن أن يحدث في المستقبل المنظور، حتى لو كانت صحيفة أمريكية عملاقة مثل (كريستيان ساينس مونيتور) قد وأدت نسختها الورقية بالكامل عام 2009م، مكتفية بنسختها الإلكترونية، فمثلما انسحبت صحف عن امتطاء صهوة الورق، ظهر فرسان جدد في سوح الصحافة الورقية الناجحة والنامية، وهو ما يسهل رصده على من يستهويه المجال.
لكن هناك تجارب أخرى أمسكت بالعصا من المنتصف، ومنها التجربة العجيبة التي تعيشها كبرى المدن الأمريكية (نيو أورليانز) التي أضحت بلا صحيفة ورقية يومية.. فقد توقفت صحيفتها الشهيرة (ذا تايمز - بيكايوني) من الصدور الورقي اليومي، واكتفت بطباعة الجريدة الورقية ثلاث مرات أسبوعياً، في حين يستمر حضورها الإلكتروني طوال الأسبوع، وهو ما يعني رؤية ذات خصوصية من القائمين عليها.. فاختاروا منهجاً هجيناً يجعل صفة السير كتفاً بكتف مثالاً عملياً بين الورقي والإلكتروني.
على أن النجاحات في الصدور الورقي اليومي، مع حضور إلكتروني شديد الوهج، تبدو أيضاً متألقة، خصوصاً ونحن نتخذ (الجزيرة) مثالاً، وكم كانت أنيقة ووفية وهي تحتفي مؤخراً بشركائها في النجاح، ما شكَّل لفتة رائعة وأسلوباً حضارياً رفيع المستوى.. ليس مستغرباً من (الجزيرة) وقيادتها التحريرية والإدارية.
هكذا تبدو (الجزيرة) وقد أعدت عدتها لكل احتمالات المستقبل، فهي لا تتوانى عن مواكبة كل ما يخدم الطباعة الورقية ويرتقي بمستواها الكمي والنوعي، وتغذ السير في الوقت ذاته صوب فضاءات العالم الرقمي والإلكتروني بكل معطياته، ما جعلها حاضرة في كل آفاق الملتميديا المتاحة، بإصداراتها الورقية والإلكترونية.
ليس ثمة معركة قادمة، لكنها تحديات لخلق منظومات تقرأ الواقع والمستقبل باجتهاد وحصافة، وتستعد لما يمكن أن يحدث من مستجدات في عالم الصحافة، ولعل الجزيرة قد أخذت أهبتها لكل التحديات، ويبقى أن تستفيد كل الصحافة العربية من ريادة الجزيرة، وتعاملها الذكي خدمة لقارئها، وحرصاً على صحافة مستدامة تتجاوز كل العقبات، وتحقق النجاحات الباهرة عاماً بعد آخر.