الفاتنة ما زالت تستهويني، فالرياض.. التي فعلت فيها الأمطار ما فعلت، تظل شديدة الحسن، بهية الطلعة، ممشوقة القوام، ضامرة الحشا، معتدلة المبنى.. مشرئبة العنق.. لا يُشتكى منها قصر ولا طول!
فارقتُها منذ خمس سنوات، مودعا عقوداً من العمر الجميل، سكبته سعيداً هانئاً راضياً بين رفقة لا تمحوهم الذاكرة في صحيفة (الجزيرة)، وفي أحياء عديدة سكنتها طوال رحلة العمل الصحفي الجميل، بدءا من أقاصي العريجاء حين كان الذهاب إليها يتطلب مغامرة في دروب وادي لبن، وانتهاء بمنفوحة.. التي شهدت ما شهدت.. إبان الأحداث الأخيرة التي تزامنت مع توفيق أوضاع بعض العمالة الأجنبية.
كدت أحس الغربة في الخرطوم، فقد عُدت إليها حاملا (الرياض) في حناياي. باتت عاصمة النيلين الجميلة غريبة عني، شوارع جديدة لم يكن لها وجود قامت وتمددت، ومعالم كثيرة كانت ماثلة فأصبحت أثراً بعد عين، وبنايات استجدت وفرضت واقعاً معمارياً لم يكن له أصل في ذاكرتي المرهقة!
عشت مرحلة كبيرة من انعدام الوزن، تلك أرجوحة يعرفها كل من عاش سنوات خارج سربه الأصلي، وكم كان بعض رفاقي السعوديين يبوحون في جلسات الأنس.. وطلعات البر.. وهم يعودون من رحلات خارجية طويلة في سبيل الماجستير والدكتوراه.. بمعاناة التأقلم مجدداً، عقب سنوات أبعدتهم عن بلادهم، وتطلبت منهم إعادة تأهيل عند الأوبة.. كي يعودوا جزءاً من دورة الحياة في الوطن.
أكثر ما لفت أنظاري في الخرطوم، التي تعيش بين النيل الأزرق المندفع من الهضبة الإثيوبية، والنيل الأبيض الآتي بتيه ودلال من بحيرة فكتوريا.. أنها (تسعودت) في بعض مسمياتها، وهو أمر يمكن ملاحظته بسهولة، فهناك حي (الرياض) الجميل شرقي الخرطوم، وهناك حي (الطائف) المجاور له، وفي أمدرمان هناك حي (الروضة) أحد أرقى أحياء العاصمة الوطنية العريقة، فضلا عن مسميات أخرى لمستشفيات مثل (مستشفى مكة)، ومطاعم ومرافق تتسمى بالحرمين، ومجمعات سكنية تتسمى بأحياء مثل (الياسمين)، و(الحجاز)، و(السفارات)، وغيرها.
هل كانت المسميات عونا لصويحبكم في الاندماج تارة أخرى مع سربه؟
الذي أعرفه أن الناس تتأقلم مع واقعها المحيط، وهكذا لم أكن نشازاً عن نواميس الكون، فلم تطل مرحلة انعدام الوزن، وسرعان ما عدت جزءاً من الحياة العادية في الخرطوم، وجزءاً من المجتمع الصحفي السوداني، أجول بالقدمين في شارع النيل، وأمارس بعض الترويح على سيارتي في الأمسيات.. وأعاني من رهق الحياة، وأشكو عذابات المهنة التي لا ترحم سنوات عمري وشيبي الذي ملأ كل الأنحاء!
أقرأ لأحد أصدقائي السعوديين سطوراً ناقمة على ما فعلته الأمطار بالرياض.. قلمه كان مشاغبا كعهده، وغضبته كانت شديدة وهو يوجه نقداً لاذعاً لاسعاً لمن يرى تقصيرهم في عملهم. غلبتني الابتسامة، فقد سعدت أن روح العمل الصحفي السعودي رحبة وتتطور منسجمة مع ارتفاع الوعي الجمعي بالقضايا العامة، وهو ما يجعل الصحف تقترب من نبض الناس الحقيقي، لكن (البسمة) كان لها -أيضاً- سر آخر، فالأمطار التي فعلت ما فعلت بالرياض.. عبثت بشراسة وقسوة امتدت طولا وعرضا وعمقا في الخرطوم وتخومها، ولو عاش صديقي نصف ما عاشته العاصمة السودانية في موسم الأمطار الذي انقضى قبل أقل من شهرين، لقضى بقية العمر حامداً شاكراً راضياً.. لضآلة ما حاق بالحسناء الممشوقة الرياض.. قياساً بما جرى لرصيفتها الخرطوم!
ما لنا وأحاديث المعاناة ؟ فالمقام مقام عشق، والقلب ريان بأقاصيص العشق القديم.. ولطالما أسهم هذا العفريت المسمى الإنترنت في إشعال وهج الغرام وتأجيج أواره، وكم كانت رحلة شائقة في بعض مقاطع الفيديو بالأمس.. بعضها كان في موقع الجزيرة الإلكتروني، وبعضها في اليوتيوب.. تجولت فيها ببعض أحياء الرياض، وهمست في أذن الفاتنة بشيء من تلك المفردات الملتهبة.. التي يعرفها قدامى العشاق.. ولا يبلغ المستجدون من ناشئة الأجيال مداها أبداً!
الرياض في القلب ما بقي فيه النبض.. والخرطوم في الدم ما دام يسري في العروق.
يا لحالك العجيب.. أيها الزول العجيب!