لو يعلم المتعاطفون مع الأطفال المتسولين إلى من تذهب هذه الأموال، وما هي الضريبة التي يدفعها الطفل ليصبح متسولاً، والضريبة التي يدفعها كل يوم أثناء التسول، لما دفع لهم الناس ريالاً واحدًا.. ساقتني الصدفة قبل سنوات عدة وأنا في زيارة إلى أحد المساكن التي تشرف عليها جمعية النهضة النسائية أن التقيت بعدد من الأطفال القاطنين في ذلك السكن، ممن يتم ترتيب إجراءاتهم للترحيل، كلهم تم القبض عليهم في قضايا تسول، جلست وسطهم وسمعت حديثهم كيف دخلوا إلى السعودية، وصفوا لي كيف باعهم آباؤهم لعصابات التسول، وصفوا لي صراخ أمهاتهم وحجم التوسلات لآباء ليس في قلوبهم رحمة ولم يشعروا بطعم الأبوّة. منذ الوقت الذي خرج فيه هؤلاء الأطفال من أحضان أمهاتهم وهم يعيشون في رحلة شقاء متتالية، وصفوا لي كيف حدثت عملية التهريب، وكيف دخلوا السعودية عن طريق البر من جهة الجنوب ودسهم أسفل كراسي السيارة تحت أقدام المجرمين، قال لي أحدهم: (والله كسر ظهري برجوله) بكيت كثيرًا، وما زلت أبكي كلمّا رأيت طفلاً يتسول. وعندما سألتهم عن حياتهم اليومية مع التسول أخبروني أن أقل مبلغ ينبغي أن يجنيه كل طفل يوميًا هو 500 ريال، ومن لم يحقق الحد الأدنى من المبلغ المطلوب فسيلاقي حفلة من التعذيب وحرماناً من الطعام، بل الأدهى والأمر أنهم يتعرضون للاغتصاب وهو أمر طبيعي يحدث داخل بيت العصابة.
مشاهد دامية، تجعلنا جميعًا نتحمّل المسؤولية عمّا يحدث، وقد تطوّر الأمر من مجرد مبالغ جُمع لعصابات متخصصة في التسول، إلى مبالغ تُجمع لصالح الإرهاب والإرهابيين، كما أكدت على ذلك صحيفة «الحياة» في تقرير مخيف مفاده أن هذه الأموال التي يتم جمعها عن طريق التسوّل تذهب إلى التنظيم الحوثي الإرهابي، ولا أخفيكم، فقبل هذا التقرير كانت تراودني الشكوك نفسها كون الإرهاب يبحث عن أي منفذ يستطيع من خلاله استثمار الأموال لصالحه، ولنا في طرق جمع الأموال التي تم الإفصاح عنها أو التي لم يُفصح عنها وعلى مدى كل تلك السنوات عظة وعبرة.
أظن أن مكافحة التسول بحاجة إلى هيكلة جديدة، وآلية عمل أمنية مختلفة، وأن مكاتب مكافحة التسول التي تعمل كل تلك السنوات تحت إدارة الشؤون الاجتماعية لم تنجح في اجتثاث هذه الآفة، وأظن بعد هذا كله أن هذه الإدارة بحاجة إلى جهة أمنية صارمة وأن تكون تحت إدارة وزارة الداخلية، وبقاؤها تحت عرش وزارة الشؤون الاجتماعية لن يضيف شيئًا ولن يغيّر أو يقلص من هذه المصيبة، فأدوات مكافحة التسول وهي تحت هذه الإدارة تظل محدودة وغير قادرة على تقديم أي جديد أكثر مما قدمت، ولو تم تغيير آلية عملها فستظل محدودة، لأن بقاءها تحت هذه الإدارة لن يضيف جديداً!
عمليات التسوّل أصبحت تجد أرضًا خصبة خصوصًا في مجتمع كمجتمعنا، لذا نحن إضافة إلى العمل الأمني بحاجة إلى التوعية والتثقيف ليفهم كل شخص إلى أين تذهب أمواله؟!