حينما يستحضر الناس هويتهم الطائفية أو القبائلية أو الإقليمية أو الثقافية أو الأيديولوجية ويتعصبون لتفاصيلها ويقتلون من خالفهم ويستبيحون دمه وعرضه وماله وأطفاله وأسرته ويعملون جاهدين من أجل العنصرية لها وفرضها على حساب المجموع الآخر تحت أي مسمى
وفوق أية ذريعة فتأكد أن الهوية الأم غائبة وأنهم لا يشعرون بالأمان في ظلها، ومتى ما فقد الناس ذلك استحضروا الهويات الأخرى الصغيرة وهناك ثمة خطأ يجب أن يصحح وثمة كارثة يجب أن توقف تداعياتها في حق الدولة والإنسان والبيئة والكون بأسره...
وحينما نريد حل أية قضية فلابد من الاعتراف بها أولا ثم العمل على كشف مستورها مهما كانت أطراف المعادلات متوحشة وكيف صيغت على هذا الشكل وما العوامل التي ساعدت على انفجارها حتى لا تتفاقم المحصلات النهائية وبخاصة في ظل التحريض والاستعداء والإقصاء وغياب الجزاء والاعتقاد بملك الحقيقة المطلقة التي لا تقبل نقاشا البتة والتي تختصرها عبارة «أنا والآخر للطوفان «، وباختصار فإن ما نحصده الآن من غلبة ثقافة الطائفية في العالم الإسلامي وما نجنيه من زراعة ذلك الشوك وما نعيشه من حالة مقرفة فإنه النتاج الطبيعي لكل المشاهد التي استحضرها المغامرون ذات ليل ليدركوا في الصباح أنهم في عين الكارثة التي لا ترحم أحدا ولا تستثني طرفا في مشهد تراجيدي تماما مصاغ بطريقة غير إنسانية من قبل كل الأطراف في المشهد، الذي يكاد يخلو من بناء الإنسان حضاريا، الحارس على بوابة الهوية الأم، ولذلك أصبح مشروعنا في صياغة الإنسان المتمدن مشروعا هشا وغير قابل للصمود علما أن الضمان الوحيد من الفوضى للنوع الإنساني وما يحيط به هو ذلك المتمدن والعلم والمعرفة والأمثلة كثيرة من واقعنا المعاصر ويكفي أن تقارن تونس ومصر بليبيا واليمن وهي مجتمعات متجاورة... عصور مرت على هذه الأمة وهي في رحم التمزق والتفتت والانقسام والثارات من أجل قضايا مضى عليها أكثر من ألف سنة ونيف، وليس هناك فائدة مرجوة من استحضارها بهذا الشكل الذي لا حل معه أبدا، بكاء على شهداء وسب لشهداء وإسقاط كل ذلك الواقع المؤلم الذي تم تزويره باحترافية على واقع مختلف تماما، يشهد على الحالة الذهنية التي وصلها الإنسان المتوحش حدا فقد معه كل إنسانيته حينما يشرعن قتل بريء، وحينما يشتم غائبا مقدسا وحينما يتبرأ من شهيد صالح، وبكل دليل صراح ما كان خطرا في الدولة الأموية والعباسية وغيرها من مراحل تاريخنا البعيد والقريب سيكون أشد فتكا في أيامنا هذه بسبب انتشار وسائل الاتصال الاجتماعي ودعاة على أبواب جهنم من الأطراف كلها تسعى بنا للتوحش من كل ما يمت للإنسانية بصلة، وما كنا متأكدين من تجاوزه نكتشف أنه حاضر أمامنا بكل صوره ومشاهده وشخصياته التي عاشت لزمانها ولم تتركنا نعيش لزماننا وكل ما نعتقده محاصرا في بطون الكتب وحبيس الأدراج والمكتبات والمتاحف والجلود نكتشف أنه أشد تفلتا في هذا الزمن من وراء قضبانه المعنوية وسيكون تأثيره كارثيا بعد توظيفه توظيفا غير إنساني على المجموع بعامليتأكد لنا أن هذه الفيروسات الفتاكة كالأفاعي والفيروسات والطحالب السامة حينما تجد الكهوف والظلام والدفء في حاضنات أشبه بما نعيشه الآن ستسعى وتنفث سمها في كل من كان قدره ماثلا في طريقها، وليس هناك زمن أكثر ظلامية وأشد دفئا لها من هذا الزمن الذي أصبح فيه صوت الفوضى يعلو صوت العقل والحكمة حتى كانت المفاجأة فوجدنا أنفسنا وجها لوجه أمام صور مرعبة تتنامى وأساليب قذرة تتمدد وشخصيات طائفية مشوهة ومستحقات قبائلية ومديونيات وفواتير باهظة خرجت من جحورها التي اختبأت فيها من عمق التاريخ ليستحضرها المتخلفون الذين يغامرون بمصيرنا في هذا العالم الحديث والذي يتفرج علينا ولا يدري أيضحك منا أم يبكي علينا...
أين الهوية الأم؟ وأين المشروع؟ وأين الحضارة؟ وأين الإنسان؟ وأين نحن من كل هذا؟ وكيف يمكن لنا أن نصمد أمام كل هذه المعاول التي تحترف الهدم وتكسر البناء باحترافية وتلون ونفاق مخيف؟ ولماذا أطراف المعادلة في مسألة توريطنا بالأمس بالشحن الطائفي والتخلف القبائلي هم من ينكر النتيجة في المحصلة النهائية ويكونون عاملا مساعدا في تفاعلها الكيميائي في ذلك الجدول الدوري المستعصي على الحدود والمربعات التي رسمها العالم مندل؟
ولكي نصل إلى جواب مقنع في كل ما حصلنا عليه وما ستحصل عليه أجيالنا وما رأيناه وما ستراه أجيالنا فلابد أن نعترف أننا أمام تشكل جديد بتسارع مخيف وأطراف معادلة مجهولين تماما في واقعنا حيث إنهم لا يشعرون بأهمية الهوية الأم الضمان الحقيقي لنا جميعا ،ولكي ننجح فيه ببناء مشروعنا الثابت والعصي على السقوط والاختراق فعلينا ببناء الإنسان أولا، أساس الحضارات الخالدة، الذي نجح في قبول الآخر مهما كان عليه ويملك استعدادا للتعايش معه ووضع يده بيده لتشييد مدرسة وجامعة ومركز بحث يخدم النوع الإنساني وغرس شجرة وبناء مستشفى وتفعيل مصنع وترسية مشروع وحفر آبار وصياغة أهداف واستراتيجيات للمستقبل الإنساني على ظهر هذا الكوكب، ولن يكون كل ذلك إلا ببناء الإنسان أولا الذي يضبطه الانتماء للهوية الوطنية الكبرى دون تفتيت لها في ولاءات صغرى لا تخدم ولا تعين على التمدن والحضارة من خلال صرف الميزانيات الضخمة على تعليمه وصحته وثقافته وصياغته حضاريا ليتعايش مع من هم حوله ومن هم يشتركون معه في الهم الإنساني...
ومن صميم القول فهناك حكاية صينية ربما تختصر كل ما في ذهني عن هذا المقال ألا وهي أن الصينيين القدماء حينما أرادوا أن يعيشوا في أمان، بنو سور الصين العظيم لاعتقادهم بأن ارتفاعه الشاهق في السماء يحميهم من تسلق الغزاة والطارئين، ولكن خلال المئة سنة الأولى التي أعقبت بناء السور تعرضت الصين للغزو والاجتياح ثلاث مرات، من دون حاجة لتسلق أو اختراق ذلك السور الشاهق، إذ كان الغزاة يكتفون بدفع الرشوة للحراس الذين كانوا يفتحون لهم الأبواب فيدخلون، وهذه الحكاية تؤكد أن الصينيين صرفوا اهتمامهم لبناء الجدار وأغفلوا الأهم وهو بناء الإنسان ابتداء، أساس كل مشروع حضاري ولذلك لم ينجح الصينيون القدماء في بناء المشروع والحفاظ عليه ببناء الأسوار ورفع الجدران والسياجات لأن الاختراق المعنوي والفكري والأخلاقي يفسد كل شيء مادي، وجدار برلين لا يقل مثالا عن سور الصين وبخاصة أن آلاف الألمان الشرقيين من أطباء ومهندسين وأساتذة جامعات يهربون لألمانيا الغربية عبر رشوة حراس السور ثم يتبعهم مئات الآلاف من عامة الشعب هروبا من الجحيم في ذلك الواقع الشيوعي والرغبة في الحياة الكريمة في نظرهم والتي يفصلهم عنها جدار، لتفرز تلك الرغبة في الحياة بنقض جدار برلين حجرا حجرا، وستكون سببا أيضا لنقض كل جدار مادي ومعنوي يشعر الإنسان أنه يحجزه عن الهواء والماء والكرامة والعدالة، وهذا أعظم عظماء رؤساء أمريكا رونالد ريجان في عام 1987 حينما قام بزيارة الجدار الفاصل وأطل عليه من نافذة قصر الرايخستاغ، فأرسل إلى رئيس السوفيت ميخائيل غوربتشوف عبر خطابه أمام بوابة برندنبيرغ قائلا له «سيد غوربتشوف اهدم هذا الجدار من فضلك» لتنتهي قصة جدار برلين إلى مزبلة من مزابل التاريخ الإنساني... جيوش جرارة كانت تحتل أرقاما متقدمة في التصنيف العالمي لم تصمد أمام مشاريع الاحتلال واستباحة الأوطان لأنها لم تلتفت إلى بناء الحارس، ولم تشعره بأمان هوية الوطن المظلة الكبرى من كل الآفات والكوارث فاستسلم وترك كل شيء وراءه في ظل غياب الإنسان فيه، وبكل تأكيد في مقابل ذلك نجحت كثير من الدول في صياغة إنسانها بالرغم من تعدد الثقافات والعرقيات واللغات ليتفق المواطنين في الإنسانية التي تجمعهم حول مشروعهم الوطني، والمحزن حقا أن بعض الدول العربية والإسلامية لم تستطع بناء ذلك الإنسان بالرغم من وجود دين الإسلام العظيم الذي يساعد على تعزيز الهوية الوطنية والوحة والصف في كثير من نصوصه ويحارب الطائفية والعنصرية والتعدي على الآخر كائنا من كان، إضافة إلى وجود القيم والأخلاق والعروبة في أدبيات ذلك الإنسان، الذي تحول بكل أسف عن طريق ممنهج إلى إنسان هش قابل للاختراق بسبب الهويات الفرعية الصغرى التي سيطرت على الذهنية العامة في الإعلام والاتصال، وقبل الختام أحب أن أذكر أن كل شعوب الأرض عندها دياناتها وقبائلها ونواديها ومهرجاناتها التراثية وطقوسها الأيديولوجية ولغاتها المتنوعة ولكنها لم تتحول إلى حالات ذهنية ينامون عليها ويصبحون فيها ويقصون الآخر من أجلها ويستبيحون القتل ولاء لها ولشخوصها ويستحضرونها في أوقات فراغهم وأيام عطلهم والفرق بيننا وبينهم أن تلك المشاهد تمثل لنا حالة ذهنية في كل وقت وفي كل عمل وقد أفسدت علينا الحياة والآخرة على السواء... والله من وراء القصد.