مشكلة التعليم مشكلة مجتمعنا فهو منا وإلينا. فلا يصلح المشكلة إلا إصلاح أساسها. والمدرس هو أساس التعليم وقلبه، فإذا صلح الأستاذ صلح التعليم. واستراتيجيات تطوير الدكاترة والأساتذة بآلاف، لكن المشكلة في ترجمتها على الواقع. ولن يتحقق هذا باعتبار الوضع الذي نحن عليه، إلا باستخراج المنافسة البناءة في نفس المعلم بالحوافز المادية الربحية بجانب الحوافز النفسية والاعتبارية.
وقد سنت سنة الله في خلقه أنه لا ربح إلا بجهد عقلي وعملي. والجهد العقلي والعملي لتحقيق الربح تميل فيه النفس لاتباع الطرق الملتوية لتحقيقه بما جبلت عليه النفس من الفطرة على الظلم، وبما في الظلم من تحقيق أرباح أعلى وأسرع عادة وإن كانت قصيرة، كعشب مطرة الصيف. فإذا انقطع الآمل في الطرق الملتوية، توجهت الهمم لتحقيق الجهد بالإبداع والإخلاص. فإذا انقطع الأمل في الربح الخاص على كل حال، انقطع العمل، فالخمول والدعة هو الربح المتوفر.
وقد قدمت في مقال السبت الماضي لمقترح اليوم الذي سيعتمد على استقلالية التنفيذ لا استقلالية التشريع. فكل المناهج والخطط التعليمية يجب على الجامعات والمدارس الالتزام بتنفيذها حقيقة.
وحد الاستقلالية التنفيذية للمدارس والجامعات هو:
1 - أن يكون تعيين مدير الجامعة أو المدرسة باختيار الأساتذة لفترة محدودة تمثل مرحلة (خمس سنوات مثلا). فنفوذ المدير مستمد من المدرس ومصير المدرس في يد المدير.
2 - مواصلة الصرف الحكومي الأساسي كالرواتب وفواتير الخدمات، على الجامعات والمدارس، دون أي إعانات أخرى.
3 - منح استقلالية كاملة في الإدارة وفي التعيين والإيقاف والطرد للدكاترة والمدرسين، واستجلاب المتميزين. كما تُعطى الحرية الكاملة للدكاترة والمدرسين في التنقل بين الجامعات والمدارس إذا ما توفر لهم هذا. (وهذه الأمور لا تبدأ إلا بعد انتهاء المرحلة الأولى، ويكون مقيدا في المرحلتين اللاحقتين حتى تصفو الشوائب ثم ترفع القيود بعد ذلك، كما سيأتي)
4 - وتحديد النجاح، يجب أن يقاس بطريقة حازمة وصارمة كالأمن، فهذا أمن العقول وهو أصل لكل أمن وازدهار دائمين. فلا بد في القياس ابتداء من الاستعانة بشركة عالمية كالشركة التي تضع الاختبارات القياسية للقبول في الجامعات الأمريكية. وذلك لإنشاء شركة تابعة للتعليم، يتم اختيار إدارتها وموظفيها بناء على اختبارات قياسية من الشركة الأمريكية. فتُصمم اختبارات قياسية عامة للتعليم وللجامعات واختبارات قياسية للتخصصات لا تزيد في عمق معلوماتها على أبسط أساسيات علوم المستوى الدراسي أو التخصصي ولكنها تركز على مستوى الفهم لهذه الأساسيات وعلى المقدرة التحليلية والتطبيقية لها. وأي تجربة مشابهة فاشلة، أو غير فعالة كاختبار القدرات، فيجب التعلم من أخطائها لا جعلها عائقا، فلا نجاح إلا بعد فشل.
5 - ومن ثم إلزام كل المدرسين والخريجين والطلبة على الخضوع للاختبارات القياسية المناسبة سنويا. -كمنهج أساسي ومتطلب أساسي. وهذه نحن نصممها ولا نقلد الموجود. والتقليد سيكون في تعلم طريقتهم في وضع الأسئلة بطريقة تختبر الذكاء وتختبر مقدار الفهم للأساسيات، واكتشاف السعوديين القادرين على ذلك. فهذه الاختبارات ستستخدم كذلك في اكتشاف المقدرات العقلية للأساتذة والطلبة مما يعين على توجيه مقدراتهم العقلية لاستغلالها الاستغلال الأمثل في صالحهم وصالح وطنهم.
6 - ويصمم مؤشر للجامعات البحثية ومؤشر للجامعات غير البحثية ومؤشر للتعليم العام، تراعى فيه الواقعية ويعتمد أكثر وزنه على هذه الاختبارات القياسية.
7 - ومن ثم تصنف الجامعات والمدارس بناء على هذه المؤشرات.
8 - ويوجه الدعم الحكومي غير الأساسي (كدعم الابتعاث الداخلي، وبرنامج تطوير التعليم مثلا) وبنسب تتفاوت تفاوتا كبيراً على الجامعات والمدارس بناء على مستوى الجامعة أو المدرسة ضمن مؤشرها. وبشرط صرفه جميعاً سنوياً على الأساتذة كمكافآت للموجودين وكرواتب لمدرسين جدد خارج الميزانية تستجلبهم الجامعة أو المدرسة، وعلى أي برامج إضافية ترى فيها الإدارة أن من شأنها رفع رتبتها في المؤشر.
وهناك تحديدات وتوقعات. فالمرحلة الأولى قد يكون فيها قيود معينة حتى تتبين القدرات الإدارية ويظهر نبوغ المجهولين وستبدأ علامات كفاءة البرنامج من المرحلة الأولى، فسيصبح اختيار المدير والمدرسين وتوزيع المكافآت معتمدا تماما على مقدرة رفع مستوى الجامعة أو المدرسة في المؤشر (فالاعتبارات في الخيار ستصبح لمن يقول: الرأي هو -طال عمرك-، وليس من يقول: القول قولك -طال عمرك-). فاختيار المدير وتكريم مدرس بمكافآت وتعيين آخر وإبعاد مدرس سيعتمد كله من أجل تحقيق الصالح الشخصي لكل دكتور ومدرس، ويضبطه كون صلاحية الرئيس مستمدة من المرؤوس. وهناك الحافز المادي والحافز الاعتباري بكون حرص الأستاذ للانتماء لجامعة عريقة أو مدرسة راقية. كما سيبدأ اتجاه الجدية والحزم في الاختبارات والتدريس والحرص على تنمية المقدرة على الفهم والتحليل. وبالتالي سيبدأ خروج الطلبة غير المؤهلين باختيارهم الشخصي من الجامعة. كما ستتحفز العقول والإبداعات لتحقيق أفضل الطرق المناسبة، للتعليم ورفع القدرات بكل جامعة ومدرسة.
وبعد المرحلة الثالثة سيستقر التأسيس ويبدأ ظهور التمايز بين الجامعات والمدارس، وستتحول إلى ثقافة التعليم عندنا ليكون التعليم هو النموذج الذي يتطلع إليه المجتمع لا أرامكو، بل ليكون النموذج العالمي الأول صنعناه بأيدينا السعودية، فهذه نقدر عليها.
- كما يتوقع أن تقسم المدارس لطرفين ووسط، فسيكون هناك تقدم تطوري نجاحي سريع ومتتابع للسابقين، فالنجاح يقود لنجاح أكبر، كما سيكون هناك تأخر متواصل ومتزايد للمتأخرين. لذا يجب وضع مستوى أدنى في الاختبارات، متى وصلته الجامعة أو المدرسة أو الأستاذ تولت الوزارة أمرها وأُخرجت من النظام لإعادة بنائها، أو تحويلها للتخصصات المهنية لتحقق نجاحا في مجالها على حسب ما ستخرجه الحاجة عند بداية تقلص عدد طلبة الثانوية الراغبين في الالتحاق بالجامعات.
وضمان حرية التنقل مع السعي للمنفعة الشخصية والمقدرة على تحقيقها بناء على القدرات المُقاسة، سيخلق تكتلات في الكفاءات، مما سيجعل عندنا هارفرد ومدارس ملكية كما سيقفل جامعات أخرى للتحول إلى مهنية. وكل هذا لا يحركه إلا دافع المنفعة الخاصة لا الوعظ والدورات الكلامية.
إن جعل المدرس يعمل لنفسه، فهو كتاجر مع شركاء، سيحقق المنفعة المادية والمعنوية لنفسه ولمؤسسته. وهذه في الغرب موجودة، بصور مختلفة تحت ثقافة مختلفة إلا أنها تصب كلها في عدم معاندة الفطرة الإنسانية في حب الإنسان للخير لنفسه.
إن أي مساهمة أو مبادرة يجب أن تكون حلولا قابلة للتنفيذ وتحمل توقعات نجاح عالية. ولا حلول جدية ما لم نعترف أولا بالواقع. والحلول الجديدة وخاصة في مجتمعات لم تتعود إلا على التقليد المحض، لا بد وأن تُستنكر.
وفي الجعبة الكثير من المقدمات والمعطيات والتفاصيل والاحتياطيات والمحاذير، ولكن ما سبق هو عماد المُقترح.
إن مقترح إصلاح التعليم بتحقيق منفعة الأستاذ، مقترح سريع النتيجة دائم النجاح عظيم المنفعة. وهو سهل التنفيذ ولكنه يحتاج لقائد يتمتع بذكاء وطموح وجرأة وحزم وقوة وكرم وهيبة ونفع وضرر وخبرة في قيادة الرجال ومعرفة بحيل الماكرين وخداع المتملقين وتثبيط الكسالى والمحبطين، وما من فارس مقدام حكيم كهذا إلا خالد الفيصل.