ما كاد شرط الدفعة الأولى البالغة (30 %) من قيمة تمويل البنك لبناء المسكن ينتهي من رسم خطوط التقطيبة العابسة على وجوه المنتظرين للتمويل، حتى انفرجت الأسارير بقراءة ما نشرته الصحف يوم الخميس 13-1-1436هـ عن قرار صندوق التنمية العقارية
بإعادة تفعيل القروض الاستثمارية ومنحها دون فوائد للأفراد ملّاك الأراضي مكتملة الخدمات (خمسة عشر مليون ريال)، وشركات التطوير العقاري (ثلاثون مليون ريال) لأغراض بناء الوحدات السكنية، بشرط تخصيص 30 % منها للشقق التي لا تزيد قيمتها على (500.000) ريال. وتضمّن القرار إلى جانب ذلك مزايا لطالبي السكن تتعلق بتيسير دفع القروض. وفى اعتقاد واحد مثلى غير متخصص، ولا يدّعى وصلاً بـ(ليلى) العقار ولا التمويل - أن هذا القرار استراتيجي بالفعل، بل لعله أقرب الحلول العملية لحلحلة معضلة الإسكان. سيظهر مفعول هذا القرار في حفز أصحاب الأراضي البيضاء مكتملة الخدمات على البناء، وحفز بعض ملّاك الأراضي البيضاء غير المخدومة على توفير كامل الخدمات بها، ومن ثَمّ زيادة فرص الاستثمار العقاري ونشاط شركات التطوير. وسوف يكون المفعول أقوى لو تبيّن من دراسة المجلس الاقتصادي الأعلى التي طلبتها هيئة كبار العلماء، تحقُّق جدوى من إلزام ملّاك الأراضي البيضاء بدفع رسوم سنوية عن أراضيهم، وذلك بتخلّيهم مثلاً عن احتكار الأراضي خلاصاً من الاستمرار في دفع الرسوم، مما يسهم - مع تيسير تمويل البناء عليها - في تفريج ضائقة السكن على محتاجيه. السكن - كما هو معلوم بالضرورة - من الحاجات المعيشية الملحّة لأفراد المجتمع، ويمثّل لمن لا يملكه عبئاً كبيراً على موارد العيش، ولا نرى في أي دراسة نشر عنها في الصحف، إلّا التأكيد على أنّ إيجار السكن يقضم ما قد يصل إلى 40 % من دخل الأسرة - وخاصة إذا كانت محدودة الدخل. وسواءٌ أخذنا بالمعلومة التي تقول إن نسبة ملّاك السكن تبلغ 36 % من السكان، أو 60 % منهم (باحتساب ما يسمّى بالمساكن الشعبية)، فإنّ قرار الصندوق سوف يعمل على زيادة المعروض من المساكن - وخاصة الشقق السكنية - بشكل يجعل تملّكها أو استئجارها ميسوراً لشرائح عريضة من المجتمع. وهذا يحصل في ظرف ملائم لحقبة قادمة قد تشهد تحوّلات في الثقافة الاجتماعية. فمن ناحية زادت تكاليف الحياة المادية فبلغت مستوى جعل الإصرار على تملّك مسكن كبير - بما يحتاج إليه من ترتيب ونظافة وصيانة - أمراً عديم الجدوى، لاسيّما أنّ الحصول على عمالة منزليه أصبح مهمة شاقة ومكلفة، وأنّ حجم العنصر النسائي السعودي في قوة العمل المشتغلة يزداد سنة بعد أخرى - ومعه يقلّ الوقت المتاح للعناية بالبيت الكبير. ومن ناحية ثانية فإنّ تأخر سن الزواج لكلا الجنسين، والقدرة علىلاعتماد على النفس مع ارتفاع مستوى الوعي والنضج، وتحقيق الاستقلال المادي بسبب الوظيفة، يجعل الاتجاه إلى تكوين الأسرة الصغيرة (النووية) هو القاعدة العامة، وهي التي تناسبها الشقق السكنية والبيوت الصغيرة. ومن ناحية ثالثه فإنّ الشباب - وهم في مقتبل حياتهم العملية - قد لا يناسبهم جميعاً تملّك الشقق والبيوت، بل يناسبهم الاستئجار الذي لا يقيّد سعيهم لاقتناص الفرص الأفضل للمعيشة والعمل في مكان آخر ؛ وهذه ظاهرة حسنة، تتطلّبها الديناميكيّة الاجتماعية اللازمة للتنمية المتوازنة، حيث لا يخدم هذه التنمية تشبث الشباب المؤهلين بأن يكونوا قريبين من مقرّ العائلة الكبيرة أو المسكن المملوك. من هذه النواحي جميعها فإنّ التهيّؤ لانتشار ثقافة السكنى بالشقق، يستوجب تشجيع مشاريع مجمّعات الإسكان متعددة الأدوار التي تتنوّع في مواصفاتها وأحجامها ومواقعها بما يلائم الاحتياجات والأذواق المختلفة، والتي تُنشأ داخلها وفي محيطها خدمات متكاملة توفر بيئة اجتماعية حيوية. ومثل هذه المشاريع لا تستجيب فقط لتحوّلات الثقافة الاجتماعية التي أشرت لبعضها، بل إنها توجد الكثافة السكانية التي تضمن الجدوى من توفير الخدمات العامة من مرافق ومدارس ومساجد ووسائل للنقل العام.
التشجيع كلمة يسهل دائماً قولها، ويسهل أيضاً تبخّرها إذا لم تتحوّل إلى جهود فاعلة تساند المستثمرين وتزيل المعوّقات الرابضة أمامهم وتحفزهم إلى الإنجاز. ولا جدال - في رأيي - أنّ موافقة صندوق التنمية العقارية على منح القروض للاستثمار السكني هي أهمّ القرارات المشجّعة. وحيث إنّ السكن ضرورة معيشيّة يكتوي بنارها كل من يصعب عليه حيازتها، فهي ليست أقلّ أهمية من الضرورات المعيشيّة الأخرى التي تدفع لها الدولة دعماً يجعلها في متناول جميع المواطنين. ولذلك فإنّ المستثمرين - سواءً كانوا ملّاكاً أفراداً أو شركات للتطوير العقاري - ينتظرون دعماً مماثلاً يضاف إلى القروض الميسرة. ويتمثّل هذا الدعم - كما ذكر لي أحد مديري شركات التطوير - في تحمّل وزارة المالية دفع مستحقات الزكاة المطلوبة من المطوّرين سنوياً عن الأراضي طيلة مدة تطويرها لأغراض السكن، وذلك تخفيفاً عن المطوّرين من عبء دفع الزكاة، وإلّا فإنه سيصبح في النهاية عبئاً يتحمّله المستفيد من السكن وهو المواطن.