لم يكن الأكراد فاعلين في المشهد السوري خلال السنوات الثلاث الفائتة، التي تشكل عمر الثورة السورية منذ اندلاعها مارس العام 2011م، فقد نجح نظام بشار بتحييدهم عن مسار الثورة عندما التهبت عسكرياً، رغم أنهم تصادموا مع هذا النظام الدموي قبل ذلك،
كما حدث العام 2004م بما عُرف بمجزرة القامشلي، أو احتجاجات الأكراد العام 2008م، وما حدث بعدها من قمع واعتقالات. وكذلك مشاركتهم المتواضعة في بداية الثورة العام 2011م. فالأكراد يشكلون القومية الثانية بعد العرب في سوريا بنسبة (10 في المئة)، ويتركزون في محافظات الحسكة والرقة وحلب « عين العرب (كوباني) وعفرين»، ونجاح نظام الأسد في تحييد الأكراد عن دائرة صراعه الدموي مع الثوار، ربما جاء عقب ممارسات استرضاء قام بها هذا النظام لمنع مشاركتهم في الثورة السورية، فقد منح الجنسية السورية للمقيدين منهم في سجلات الأجانب في محافظة الحسكة خلال أبريل العام 2011م، كما أصدر بشار الأسد قانوناً يسهل إجراءات التداول والتملك العقاري في المحافظات الحدودية السورية (الكردية)، إضافة إلى ذلك سمح للأكراد الاحتفال بعيد النيروز، حتى إن وفداً من نظام الأسد شارك في احتفالهم، وقبل كل ذلك لم يمارس نظام الأسد القوة والعنف ضد مظاهرات الأكراد في مناطقهم كما هو الحال مع سكان المدن السنية.
قطعاً هذه الممارسات الاسترضائية للأكراد ليست السبب الرئيس في الموقف الكردي العام، الذي تشكل على الخريطة السورية بالجنوح إلى الحياد بعيداً عن القتال الدائر بين جيشي النظام والثورة، لأن الأحزاب والقوى الكردية، وتأثيرات أكراد العراق وتركيا كان لها دور كبير في ذلك، أي في تبني ما يسمى (الخط الثالث)، بين نظام الأسد (الخط الأول)، وائتلاف المعارضة والثورة السورية (الخط الثاني). فخريطة القوى والأحزاب الكردية السورية تعكس عن مواقف سياسية متباينة من جهة، ومتداخلة في علاقاتها الإقليمية من جهة أخرى، فهناك (حزب الاتحاد الديمقراطي) بقيادة صالح مسلم، رفض نزول أنصاره إلى الشارع والمشاركة بالثورة السورية، لدرجة أن الشكوك والاتهامات صارت تحوم حول هذا الحزب بأنه يقيم علاقات خفية مع النظام السوري، خاصةً أن لديه في المقابل علاقات وثيقة بحزب العمال الكردستاني (التركي)، الذي يتزعمه عبد الله أوجلان.
أيضاً هناك (المجلس الوطني الكردي)، الذي تأسس في أكتوبر 2011م، ويضم 15 حزباً كردياً سياسياً، أبرزها (الحزب التقدمي الكردي) المرتبط بعلاقات مع مسعود برزاني رئيس إقليم كردستان العراق، حتى قيل إن برزاني حث أكراد سوريا على عدم التورط بالصراع الدائر في بلدهم بين النظام والثورة. وكذلك (الحزب الديمقراطي الكردي)، الذي يتمتع بعلاقات وثيقة مع حزب الاتحاد الوطني الكردستاني، الذي يتزعمه جلال طالباني الرئيس العراقي السابق. هذان الحزبان الكرديان السوريان (التقدمي والديمقراطي) لم يعلنان بشكل صريح الدعوة إلى المشاركة في الثورة السورية، رغم أنهما يعلنان رفضهما القمع والعنف الذي يمارسه نظام الأسد في حق الشعب السوري. بالطبع هناك أحزاب أخرى في المجلس الوطني الكردي تؤيد الثورة السورية وتدعو لإسقاط نظام الأسد، مثل تيار المستقبل الكردي، لكنها غير فاعلة وسط الحال العام للموقف الكردي، كما يوجد طرف كردي آخر يؤيد الثورة بقوة، وهي تشكيلات ما تسمى (التنسيقيات الكردية) إلا أنها تفتقر لقيادات سياسية فاعلة ومؤثرة.
زد على ما سبق، أن علاقة المجلس الوطني الكردي بـ(المجلس الوطني السوري) فاترة وغير مثمرة، ولعل ما جرى في مؤتمر المعارضة السورية بالقاهرة يوليو العام 2012م، يكشف جانباً من هذه العلاقة الفاترة، عندما انسحبت جميع الأحزاب الكردية بسبب رفض المجتمعين تضمين مصطلحي (الشعب الكردي) و(الشعب التركماني) في وثيقة المؤتمر التوافقية لمرحلة ما بعد إسقاط نظام الأسد. بل حتى المجلس الوطني الكردي لم يسلم من الخلافات الداخلية، فقد انسحب (حزب الاتحاد الديمقراطي) من هذا المجلس، كما اختلف مع المجلس الوطني السوري أيضاً، لأن هذا المجلس طالب حزب الاتحاد الديمقراطي بإضافة فقرة إلى وثيقة التفاهم بينهما تنص على تحريم العنف الداخلي الكردي الكردي.
هذه لمحة لواقع الحال الكردي بسوريا، وخريطة توضح مواقف الأحزاب الكردية، وهي تعكس حقيقة أن الأكراد بعمومهم قد اتخذوا موقف الحياد، أو كما سماه عبد الله أوجلان (الخط الثالث) ونصح به، فأقصى ما صدر منهم تجاه النظام السوري هو التنديد بقمعه للشعب السوري، فشريحة عريضة من الأكراد، وربما تشكل السواد الأعظم منهم كانت متقبلة لخطاب الثورة السورية في مرحلتها السلمية، لكنها تراجعت بشكل كبير مع تحولات الثورة ووصولها إلى مرحلة العنف والقتال. كونها ترى أن القتال الدائر بين جيش النظام وجيش ائتلاف الثورة والمعارضة يهدد الحلم الكردي في قيام حكم ذاتي للأكراد السوريين على غرار نظرائهم العراقيين.
لكن السؤال هنا: هل هذا الموقف الكردي يُعدُّ قراءة واعية لمشهد المنطقة برمتها وليس لسوريا فحسب؟ خاصة عقب دخول تنظيم الدول الإسلامية في العراق والشام (داعش) مدينة عين العرب (كوباني) وهي أهم مدينة كردية، وبالتالي اضطرار الأكراد إلى ترك الحياد وحمل السلاح وقتال هذا التنظيم الإرهابي الدموي، بل ومطالبة تركيا من جهة والعرب من جهة أخرى بالعمل على دعم المقاتلين الأكراد لإنقاذ المدينة، ناهيك عن الموقف السلبي لنظام الأسد، الذي لازال واقفاً يتفرج على سقوط المدينة في يد (داعش). بمعنى أن الأكراد كانوا يرون صواب موقفهم في (الخط الثالث) بين الأسد ومعارضيه، ولم يشاركوا في القتال دعماً للثورة وحمايةً للمدنيين في المدن السورية الأخرى، والآن هم يواجهون نفس المصير، حتى إن (الخط الثالث) صار هو تنظيم (داعش) ذاته، ما يعني خطأ قراءتهم وفشل رؤيتهم.