قبل اندلاع حرب التحالف الدولي ضد تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام (داعش) كانت النشرات الإخبارية والتقارير الإعلامية والكتابات الصحفية والتحليلات السياسية تدور رحاها بحثاً حول هذا التنظيم الإرهابي، الذي فاق (القاعدة) بقوة بطشه ودموية أعماله الإرهابية،
من حيث كشف تاريخ قيادته، وتركيبته السياسية، ومعرفة طبيعة شعاراته الدينية، وتحديد أهدافه الاستراتيجية، إلى جانب البحث في توقيت ظهوره الذي بدأ في العراق، ثم انتقل إلى سوريا حتى سيطر على شمالها، ثم ارتد إلى العراق، واستولى على الموصل ثاني أكبر المدن العراقية، ومنها راح يتمدد باتجاه محورين، محور بغداد في الوسط، ومحور المناطق الكردية بالشمال.
في حمأة هذا البحث الإعلامي والتنقيب السياسي كان السؤال الأهم يُطرح في الدوائر السياسية والوسائل الإعلامية، وهو: من أخرج (داعش) من أقبية الإرهاب؟ أو بشكل أدق: من صنع تنظيم (داعش)؟ نظراً للتحولات السريعة التي صاحبت ظهور هذا التنظيم الإرهابي، والقوة القتالية التي يملكها، والتجهيزات العسكرية التي يتمتع بها، والمساحات الجغرافية التي يتحرك خلالها، حتى كاد الناس ينسوا تنظيم (القاعدة)، وخصوصاً عقب اتفاق المجتمع الدولي على خطورة (داعش)، ووجوب محاربته والقضاء عليه. فكانت الحرب الدائرة - حالياً - ضد هذا التنظيم، الذي يتلقى الآن ضربات وقصف طائرات التحالف (الغربي - العربي) في أكثر من موقع، سواء على الأراضي السورية أو العراقية، ومع ذلك ينشط ويصمد في كثير من المناطق.
الإجابة الصحيحة والمنطقية لذلك السؤال ما زالت غائبة، وإن كان البعض يطرح تصورات، ويبدي اجتهادات كإجابات موضوعية عليه، منها: من يرى أن (داعش) صناعة استخباراتية غربية، في مقابل من يراها صناعة إيرانية بتعاون من قِبل نظام بشار وحكومة المالكي، وما يسمى (حزب الله). بينما هناك من يرى (داعش) امتداداً طبيعياً لتنظيم (القاعدة)، ونسخة جديدة لهذا التنظيم الدولي. وخلاف ذلك هناك من يرى (داعش) طوراً أشد تطرفاً وأكثر إرهاباً من تنظيم (القاعدة) ومستقلاً عنه، تشكَّل بسبب حالة الفوضى وانعدام الأمن في العراق مع وفرة السلاح، من خلال جماعات عراقية مقاتلة، نمت وترعرعت هناك، ثم جذبت إليها قطاعاً عريضاً من أبناء العرب وشباب المسلمين الأوروبيين المتشددين الذين انصهروا في بوتقة واحدة. هذه الآراء المتباينة حول حقيقة (داعش) الافتراضية، لدرجة التضارب فيما بينها، تجعل التفصيل مطلباً؛ لعل القارئ يستنتج الحقيقة، أو على الأقل يرجح أي الآراء أكثر منطقية وأقرب للصواب.
من يرى أن (داعش) صناعة استخباراتية غربية، أو على الأقل مخترق من قِبل الاستخبارات الأمريكية، يربط ذلك بجملة مسائل، أبرزها: ظهوره في المنطقة التي كانت تتحكم بها أمريكا، بالتزامن مع ما يسمى (الربيع العربي)، وتحديداً عقب فشل الثورات العربية، وتحركاته القتالية بحرية تامة بين سوريا والعراق، وتجهيزاته العسكرية المتنوعة، وموارده المالية التي لا يُعرف مصدرها، فضلاً عن تقارير تشير إلى أن أبا بكر البغدادي زعيم (داعش)، أو الخليفة المزعوم، كان معتقلاً لدى الأمريكان في سجن (بوكا) بالبصرة خلال الفترة بين عامي 2005م و2009م، وبعد الإفراج عنه التحق بالجماعات السلفية المقاتلة، وبخاصة تنظيم الدولة الإسلامية في العراق. وفي العام 2010م تولى البغدادي زعامة هذا التنظيم. وفي العام 2013م أعلن أن تنظيمه يشمل العراق والشام، وصار اسمه (الدولة الإسلامية في العراق والشام)، ويعرف اختصاراً بـ(داعش).
والغرض الاستخباراتي من هذا التنظيم هو دفع المنطقة العربية نحو التمزق أكثر وأكثر حتى التفتيت التام، وإيجاد المبرر (الإنساني) أمام العالم لبقاء القوات الأمريكية في المنطقة العربية. فاليوم نسمع عنه في العراق وسوريا، وغداً في ليبيا، وربما اليمن.. وهكذا.
ناهيك عن دوره الواضح في تشويه أحكام الإسلام، وتقديم الخلافة (المزعومة) نموذجاً للدم والقتل والتدمير. أضف إلى كل ذلك أن إدوارد سنودن الموظف السابق في وكالة الأمن القومي الأمريكي قد كشف أن هذه الوكالة ونظيرتها البريطانية والموساد الإسرائيلي هم من صنعوا (داعش)، وأن البغدادي عميل لهم تحت مهمة تعرف بـ(عش الدبابير)، التي يقصد منها استقطاب كل شباب الجماعات المتشددة في منطقة واحدة والقضاء عليهم.
في المقابل، هناك من يرى أن (داعش) صناعة إيرانية بتعاون من نظام بشار وحكومة المالكي وما يسمى (حزب الله)، ويستند في ذلك إلى وقائع جرت وما زالت على أرض الواقع في العراق والشام، أبسطها أن هذا التنظيم أسس مؤسسات دولة في الرقة السورية، ويبيع النفط لنظام بشار، ويتحرك بقواته الثقيلة بكل حرية بين العراق والشام، ولم يحرر منطقة واحدة من نظام بشار، بل على العكس نسق مع هذا النظام وحارب لصالحه كلاً من الجيش الحر والجبهة الإسلامية (أحرار الشام)، بدلالة أنه ما دخل منطقة إلا عبث بها، وخلط أوراقها بين ما هو حق للمقاومة وما هو باطل وعمل إرهابي. كما لا يمكن نسيان مسرحية سيطرته على الموصل، وكيف استسلم له جيش المالكي بكل بساطة رغم عتاده وتجهيزه، فكان نتيجة ذلك أن هذا التنظيم العميل قد قضى على ثورة العشائر سياسياً وإعلامياً. وزد على ذلك أن (داعش) رغم قوته الانتحارية وعقيدته التكفيرية وموقفه الصارم - كما يزعم - من الشيعة والصفويين لم يطلق رصاصة واحدة تجاه إيران، أو يقترب من حدودها، أو يهدد أذرعها العسكرية في العراق كـ(فيلق بدر) أو (جيش سرايا القدس الإيراني)، وغيرهما. ولعل هذه الوقائع تعزز فرضية الرواية التي تقول إن فكرة تشكيل تنظيم سني تكفيري جاءت من حسن نصر الله أمين (حزب الله)، ولقيت تأييداً من نظام بشار وحكومة المالكي إلى جانب إيران، التي دعمت الفكرة؛ كي تكون مبرراً قوياً لحماية الشيعة في العراق وسوريا والمراقد والمواقع الدينية، فتم إطلاق السجناء المتطرفين في السجون العراقية والسورية، الذين شكلوا جماعات مقاتلة أنتجت (داعش)، بل تم تسهيل الطريق لتنظيم (داعش) في حروبه الأخيرة بإطلاق سراح السجناء في سجون المناطق والمدن التي دخلوها. ومن يستذكر تصريحات نصر الله في تبريره لدخول مقاتليه سوريا أنه قال «لأجل صد التكفيريين عن لبنان».
أما القائل بأن (داعش) هو امتداد طبيعي لتنظيم (القاعدة) فيُرجع ذلك إلى نشأة التنظيم المتزامنة تماماً مع ظهور (القاعدة) في العراق، ومن ذلك أن الزرقاوي عندما كان في العراق يتزعم (تنظيم القاعدة في بلاد الرافدين) سعى إلى استقطاب جميع الحركات الإسلامية السلفية العراقية المقاتلة، من خلال مجلس ما يعرف بـ(مجلس شورى المجاهدين)، فانضم لهذا المجلس جماعة أبي بكر البغدادي (جيش أهل السنة والجماعة)، وجماعة (الطائفة المنصورة) التي يقودها العراقي حامد بن داود الزاوي (أبو عمر البغدادي). وبعد مقتل الزرقاوي على يد القوات الأمريكية تم انتخاب المصري عبد المنعم عز الدين البدوي (أبو حمزة المهاجر) قائداً لتنظيم قاعدة العراق، وكذلك انتخاب حامد الزاوي (أبو عمر البغدادي) زعيماً لمجلس شورى المجاهدين. وفي شهر أكتوبر 2006م أُعلن تأسيس تنظيم (الدولة الإسلامية في العراق) بقيادة أبو عمر البغدادي ذاته، فأصبح على الساحة العراقية - آنذاك - تنظيمان (قاعدة بلاد الرافدين)، و(الدولة الإسلامية في العراق). وبعد نجاح القوات الأمريكية بالتعاون مع حكومة المالكي في شهر إبريل العام 2010م في قتل أبي عمر البغدادي (حامد الزاوي) وأبي حمزة المهاجر (عبد المنعم البدوي) ظهر في المشهد أبو بكر البغدادي (زعيم داعش الحالي)؛ وصار أميراً لتنظيم (الدولة الإسلامية في العراق). وعلى يديه أصبح التنظيم أقوى من (القاعدة).
يبقى الرأي الأخير أو الرابع الذي يعتقد صاحبه أن (داعش) تنظيم إرهابي جديد، ظهر على الساحة العربية، وليس له علاقة بالاستخبارات الدولية، كما ليس له علاقة بتنظيم (القاعدة) إلا من حيث الأيديولوجيا الإسلامية، والراية، وتبني منهج التكفير وخيار التفجير. ويتمحور هذا الرأي حول أن السياسات الغربية العدوانية وغير المنصفة للقضايا العربية والإسلامية، إلى جانب عجز الأنظمة العربية عن إيقاف العدوان الصهيوني، ولجم المشروع الصفوي، قد أسهما في تحول قطاع كبير من شباب الأمة إلى فكر الإرهاب وتبني العنف منهجاً للتغيير، وبشكل يفوق أعمال تنظيم (القاعدة) بهذا التنظيم المسمى (داعش)، الذي لا يتشكل من كتلة واحدة، إنما من مجموعة تنظيمات صغيرة ذات خلفيات سياسية وحزبية سابقة، ولكن يجمعها هدف واحد، وتشترك في أفكار وأدبيات واحدة؛ ما يفسر انتشارها العريض على مساحات في العراق وسوريا بشكل غريب وسريع.
إذن، نحن إزاء أربعة تصورات أو وجهات نظر تحاول أن تجيب عن سؤال محدد: مَنْ صنع (داعش)؟ ولمقاربة وجهة النظر الصحيحة (فتش) عن المستفيد الفعلي من وجود (داعش) بهذا الظهور السريع والقوة العسكرية والانتشار الجغرافي العريض، مع أعماله الدموية وطريقة إدارته للمناطق التي يحكمها، بما لا يقبله دين ولا عقل ولا عرف، لكن تقبله المصالح السياسية غير الأخلاقية، وتبرره وفق قاعدة (الغاية تبرر الوسيلة).