* الثلاثاء القادم؛ الموافق للتاسع من شهر ديسمبر الحالي؛ هو (اليوم الدولي لمكافحة الفساد)، ما يعني أن دول العالم كافة تعاني من داء عضال اسمه (فساد)، وأنها تبذل كل ما في وسعها لمكافحته ودرء أخطاره وأضراره على المجتمعات البشرية، ولهذا فهي تحتفل بهذه المناسبة ليس فرحاً
بإنجاز تحقق ضد الفساد والمفسدين؛ فهذا الفرح لم يحن أوانه بعد، ولكن للتذكير بما تعانيه المجتمعات البشرية نتيجة للفساد، وللتعرف على تجارب الدول في حربها ضد الفساد، ومعرفة الجديد في وسائل هذه الحرب والنتائج التي وصلت إليها كل دولة.
* المملكة واحدة من أكثر الدول معاناة مع فسادها ومفسديها، وهي وإن بدأت في منهجة حربها ضد الفساد متأخرة بعض الشيء، فإنه يكفيها فخراً في هذا الميدان؛ أن خادم الحرمين الشريفين (الملك عبد الله بن عبد العزيز) نفسه- وهو يمثل القيادة العليا فيها- اعترف بوجود الفساد علناً أمام كافة المواطنين، ونتج عن ذلك وبتوجيهات سديدة منه؛ وضع استراتيجية وطنية لحماية النزاهة ومكافحة الفساد منذ العام 1428هـ، وتبع هذا تنظيم: إشهار (الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد.. نزاهة) في العام 1432هـ، ويمثل هذا الإجراء قمة الشفافية، ويصور عزم الدولة وحزمها على اجتثاث الفساد، وردع المفسدين، وحفظ حقوق الدولة والمجتمع على حد سواء.
* إن من أهم الأسباب المؤدية إلى الفساد المالي والإداري على وجه التحديد؛ انعدام الوازع الديني أولاً، وغياب الضمير، ومن ثم استخدام السلطة، واستغلال النفوذ الإداري والمالي وحتى القضائي، ومن المؤسف أني أكتب عن حجم الفساد الكبير في بلدي، الذي هو دولة إسلامية تطبق شعائر الدين الإسلامي، وفي هذه الشعائر من قيم الأخلاق والنزاهة ما لا يوجد في أي شريعة سواها، ويتعلم- بل يتشرب- السعودي هذه القيم السامية منذ الصغر، وتظل معه لا تفارقه في دراساته العامة والعليا، وفي صلاته وصيامه وحجه وعمله وحله وترحاله، إلى أن يتوفاه الله، مورّثاً إياها من يأتي بعده من أجيال، ومع هذا كله، نعرف ونلمس ما يمارس من شتى ألوان وأنواع الفساد الضار بنا ديناً ودنيا، ونتحدث دون حياء أو خجل؛ عن قيم الإسلام وأخلاقه، وكأن هذا الفساد في غير أرضنا، وكأن هؤلاء الفسدة؛ يأتون إلينا من أجرام سماوية بعيدة..!
* للفساد ألوان وأنواع عديدة، لكن ما خرج عن النطاق الشخصي، وعم بالضرر والإيذاء آخرين غير صاحبه، سواء في أنفسهم أو في أموالهم وأعراضهم وحياتهم، فهذا هو الفساد الأعظم الذي يجب أن يتداعى له كافة أفراد المجتمع، وأن تسخر له كافة الجهود الحكومية والأهلية لوقفه واجتثاثه والقصاص من أصحابه، و(الفساد المالي والإداري)؛ هو الأبرز في هذه الصورة البشعة في المجتمعات كافة، وفي مجتمعنا على وجه خاص، كما أن (الفساد الفكري) الذي يمتطي صهوة الخطاب الديني، لا يقل خطراً عن الفساد المالي والإداري، وهذه مسئولية مضاعفة، تثقل كاهل المجتمع والدولة معاً، لكنها ليست صعبة ولا مستحيلة.
* وهناك كلام كثير يقال في مسألة الفساد بشتى صوره، ومنه ما يدخل في إطار الطرافة، فهناك سفير دولة يقال أنه رهن سفارة بلده للبنك لكي يمول مشروعاً خاسراً..! وكاتب عدل أصدر وكالة مكتوب فيها: (حضر لدي فلان)؛ بينما فلان هذا متوفى..! وقصة (قاضي الجني) قريبة عهد بنا، فالقاضي الذي وضع يده على أرض قيمتها 600 مليون ريال، لم يجد من يعلق عليه هذه المفسدة العظمى إلا (الجني) الذي نسب إليه إغواءه واختلاس قيمة الأرض..!
* ولأن الفساد ظاهرة عالمية لا تستثني أحداً؛ فلهذا جوبه بـ (منظمة الشفافية العالمية)، التي تصدر تقارير سنوية، وفي تقريرها لسنة 2013م- وقد شمل 174 بلداً في العالم- جاءت دول مثل الدانمرك وفنلندا ونيوزيلاندا في رأس قائمة الدول الأقل فساداً، وجاءت دولة الصومال وكوريا الشمالية وأفغانستان في ذيل القائمة، بينما احتلت المملكة العربية السعودية والكويت ورومانيا الرقم 66 في قائمة الشفافية العالمية.
* كانت الدولة وما زالت؛ تعمل جاهدة على توفير أكبر قدر من الخدمات لمواطنيها في كافة المجالات وشتى الميادين، فإذا وقع تقصير في التعليم أو الصحة أو السكن أو أي تعامل له علاقة بالمجتمع، فهذا يعني أن سوسة اسمها (فساد)؛ تنخر في هذا الجهاز أو ذاك من أجهزة الدولة الرسمية أو المؤسسات الأهلية، وجهاز (الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد)؛ الذي يمثل الدولة والمجتمع؛ لن ينجح في مهمته العظيمة هذه كامل النجاح، إذا لم تكن هناك جهود مجتمعية تسنده وتعضد عمله، وتمثل عينه التي يرى بها، وأذنه التي يسمع بها، وقد وفرت الهيئة قنوات كثيرة للتواصل معها في حربها ضد الفساد والمفسدين.
* إن الله لا يحب المفسدين.. كم مرة ورد النفي بهذا المعنى في القرآن الكريم..؟! دعونا نعود إلى قرآننا الكريم لنعرف حجم الكره الذي يقابل به رب العالمين المفسدين..؟ فالكره مضاد للحب، والله عز وجل لا يقبل من عباده ما يضر بعباده من فساد، وقد بلغ عدد المفردات القرآنية من (فسد) في القرآن الكريم خمسين مفردة.
* إذا لم تنجح مناهجنا الدراسية، ولا خطبنا الدينية، ولا وسائل إعلامنا المختلفة، في تعزيز السلوك الأخلاقي، وتنمية الوازع الديني في النفوس، فلا بد إذن مما ليس منه بد، وهو الكي.. الذي هو آخر العلاج، الكي بتطبيق النظام على الكبير قبل الصغير، والتشهير بكل من يعيث في البلد فساداً، يستغل سلطته ونفوذه، فيسرق الأموال العامة والخاصة، ويعطل مصالح الناس، ويرشي أو يرتشي أو يتوسط بينهما.
* إن الأخطر من الفساد؛ بيئته الحاضنة، والأسوأ من الفاسد حاميه. وحتى نخلص من الفَسَاد والفُسّاد؛ لا بد من تنظيف بيئات الفَسَاد، وقطع دابر حماة الفُسّاد.