سر نهوض الأمم الأخرى التي شقت طريقها بسرعة وأخذت مقعدها المؤثر بين حضارات هذا العصر أنها اعترفت بعجزها حينا من الدهر حتى تجاوزته بطأطأة رأسها للعلم ولم تكابر؛ فنهضت!
لم يكابر الصينيون فانفتحوا على الغرب رغم اعتزازهم بشخصيتهم وتراثهم وتاريخهم الحضاري العريق؛ فنهضوا!
ولم يكابر الروس وهم من هم في مبلغ الشوفينية من نفوسهم وتسلط الأنا والفخر بالذات؛ ولكنهم أيضا رأوا أن من الحماقة الانغلاق على النفس فحطمت « برسترويكا « جورباتشوف أوهام الاحتماء بالجذوع الروسية القديمة؛ فواصلوا بناء مشروعهم الحضاري المتسيد المهيمن الذي يفرض شروطه الآن على العالم كتعديل عقلاني لمشروع الاتحاد السوفييتي الفاشل!
ولم يكابر اليابانيون ويحاربوا الحضارات ومنجزات العلم ومبتكرات العقل الواعي وعطاء العبقرية الفذة على الرغم من خضوعهم لحالة من الانغلاق الامبراطوري التام قرابة ثلاثة قرون؛ إلا أنهم رأوا أن عزلتهم عن العالم الغرب الذي أحرز تقدما علميا هائلا سيقضي عليهم وهو الرأي الرشيد الذي تبنته ثورة حضارة المايجي العلمية المنفتحة؛ فنهضوا!
ولم يكابر الكوريون ويعادوا العالم المتفوق ففتح الجنرال بارك شونج أبواب الحياة الجديدة أمام شعبه وأعاد صياغة مفهومات البناء لكوريا الجنوبية؛ فنهضوا!
ولم يتكابر الهنود أمام منجزات العلم وهم أولئك الذين يمثلون أشد حالات الالتزام بالثقافة الذاتية الهندية؛ فنهضوا!
ولم يكابر الماليزيون وهم أثينيات وأعراق مختلفة متداخلة كونت النسيج الماليزي المتآلف المتحضر؛ فنهضوا!
ووقف العرب - مع الأسف - يتغنون بتاريخ حضارة سادت ثم بادت؛ كأية حضارة تنشأ بأسباب ودواع تاريخية استجابة لحكمة الله بتداول الحضارات وتعاقبها بين الشعوب وتوافر عوامل القوة وأسباب الانحلال، فلم يعِ كثيرون من بني قومنا وعلى الأخص ممن بلغ بهم التعصب للفترات التاريخية الذهبية العربية أن سيادة أبدية لحضارة بالمطلق غير متحقق ولا ممكن؛ ذلك أن الحضارات البشرية - وكما أشار ابن خلدون في مقدمته - تشبه الإنسان نفسه، تولد ثم تحبو ثم تكبر ثم تشتد قوتها وتزدهر وربما تطول فترة القوة والازدهار أو تقصر حسب مكونات الحضارة ورعاية الإنسان للمكونات التي أثمرت هذه الحضارة أو تلك، ثم تبدأ في الشيخوخة والهرم، وتدب فيها عوامل الفناء والاندثار، وهي كثيرة ومتعددة لا يمكن حصرها، ولكل حضارة أسباب فنائها بما لا يلزم أن تتطابق تلك الأسباب مع عوامل فناء واندثار حضارة أخرى؛ إلا أن من شبه المتواضع عليه عند كثيرين من علماء الاجتماع والسياسة أن من أشد عوامل ضعف الحضارات أو فنائها أو عدم قيام ونهوض حضارة: التعصب للعرق أو للدين أو للمذهب أو للون أو للثقافة أو للبيئة والجغرافيا أو للسلالة أو للتاريخ!
ويفهم من هذا أن التشبث بالماضي والغناء له والفناء فيه والنظر إلى أن « الدم « الذي يسري في عروق أمة لا يمكن أن يماثله دم آخر يسري في شرايين البشر؛ كما هي فلسفة النازية، أو أن هذا الشعب أو ذاك هو الشعب المختار، أو هذه الثقافة أو تلك لا غيرها لا يمكن أن يصلح العالم إلا بها، أو الحياة لا يمكن أن تعمر وتبنى وتنهض إلا بإدارة عقول أمة دون أخرى، أو أن من امتلك دفة إدارة نصف الكرة الأرضية قبل عشرة قرون أو أكثر لا بد يوما أن يملك الكرة الأرضية كلها حتى لو لم يملك من العلم والإنجاز والابتكار والإبداع ما يدير به بيته أو شارعه أو مزرعته أو مصنعه أو جامعته إلا من خلال ما أبدعه العالم المتقدم الذي يشتمه ليل نهار ولا يمكن أن يستغني عن منجزات عقله ليلا ولا نهارا!
إنها عقدة المكابرة أو الاستكبار؛ عقدة المفاخرة بتاريخ تولى، عقدة وجود كان وهو الآن غير كائن، عقدة مبارزة العالم كله بسيوف مهترئة من خشب!
لما ذا هذه الانتكاسة الحضارية الدامية التي تمزق عالمنا العربي؟! سؤال مر، أمر منه الإجابة عليه!