بدأ مشروع النهضة العربية مبكراً قبل قرنين من الزمان تقريباً؛ بمبادرات رائدة من محمد علي باشا الذي أرسل أول بعثة منتخبة من شبان الأسرة الحاكمة وذوي الجاه والنفوذ وغيرهم، بما لا يتجاوز عددهم أربعة وأربعين تلميذاً إلى فرنسا عام 1826م، حيث أوكل مهمة الإشراف عليها إلى الشيخ الأزهري رفاعة الطهطاوي وكان والحق الأبرز والأشهر في المجموعة من الطلاب الدارسين الذين تناقصوا؛ إما بالمرض أو الفشل في الدراسة إلى تسعة وثلاثين طالباً.
لست معنياً هنا بتدوين تأريخ البعثات؛ بل أود التأمل في الإجابة على السؤال الكبير الذي وفقت إلى تحقيقه شعوب وأمم بدأنا قبلها بمشروع النهوض العربي ونجحت وتفوقت، ولا زلنا نراوح في المكان نفسه، ونعيد تكرار الصراع الأزلي الذي تولّد وكبر وتشامخ إلى أن أصبح جداراً طويلاً وضخماً عازلاً بيننا وبين النجاح في مشروع النهضة خلال قرنين من الزمان؛ وهو التساؤل القلق عن: الصراع بين الأصالة والمعاصرة، والتقليد والتجديد، والمحافظة والحداثة، وما إليها مما شرعه الوجلون الخائفون على الهوية؛ وبخاصة من أولئك الراكنين إلى التشبث بكل قديم مهما كان نفيساً أو تعيساً، جيداً أو رديئاً؛ وكأن كل قديم هو جزء غال من التاريخ العزيز لا يحسن بنا أن نفرط فيه مهما بلغ من السوء والفجاجة أو الصدام مع الحياة الحديثة.
وبمقارنة يسيرة بين مشروعات النهضة عند : العرب، واليابانيين، والكوريين؛ نجد ما يجيب على سؤال: لمَ أخفقنا ونجحوا؟!
كانت مصر مهيأة لتجربة النهضة بحكم موقعها الجغرافي المميز بين القارات وعمقها الحضاري التاريخي، ويقظة ووعي والي الخلافة التركية على مصر آنذاك الانكشاري محمد علي باشا؛ فتوطن لديه ألا أمل في النهوض دون تلقي العلوم التي قامت عليها نهضة الغرب؛ ومن هنا بدأ بأول بعثة إلى إيطاليا عام 1813م لتعلم الفنون العسكرية، ثم 1816م لتعلم فنون الطباعة، ثم البعثة الأولى الكبرى عام 1826م إلى فرنسا لتعلم جملة من العلوم والفنون بأربعة وأربعين طالباً، وتواصلت البعثات إلى عام 1847م حيث بلغت ثماني إرساليات ووصل طلابها إلى ثلاثمائة وتسعة عشر، توزعوا على عواصم العلم والمعرفة والإبداع الصناعي والزراعي والعمراني والأدبي والفني، من روما إلى ميلانو إلى باريس ولندن وغيرها، وتعلموا فنون صناعة النسيج والتطبيب وسكك الحديد والآداب والمسرح والفنون والجغرافيا وسائر صناعات ذلك الزمان.
أما التجربة اليابانية؛ فقد بدأت متأخرة بخمسة وخمسين عاماً في 1868م على يد الإمبراطور موتسو هيتو أو المايجي إيشين، وعرفت بحضارة الميجي نسبة إلى ذلك الإمبراطور الذي أشرع أبواب الحياة لليابانيين، وأرسل البعثات المتوالية إلى الغرب لاكتساب تجربتهم والخروج من ربقة معطيات التواصل مع المحيط الثقافي المحدود القريب من الجزر اليابانية كالصين وكوريا الذي كان المعين الأول لتشكل الشخصية اليابانية القديمة.
أما التجربة الكورية؛ فقد بدأها الجنرال بارك شونج عام 1961م، أي بعد تجربة النهضة العربية التي بدأها محمد علي بقرن ونصف قرن تقريباً!
ولم يكن أمام الجنرال الكوري الجنوبي بارك مؤسس وباني النهضة الكورية الحديثة، إلا أن يعيد بناء كوريا التي كادت أن تندثر بعد حرب أهلية طاحنة بين الكوريتين الشمالية والجنوبية، أهلكت الحرث والنسل واستمرت ثلاث سنين من 1950- 1953م؛ فلم ير أمامه من طريق للنهوض إلا أن يعيد بناء كوريا من جديد على يد أجيال كورية شابة جديدة، تتلقى أسس العلوم التي نهضت عليها الحضارة الغربية؛ فوضع ما يشبه مشروع مارشال لإعادة تعمير أوروبا بعد الحرب العالمية؛ ولكن بأسلوب علمي يخص كوريا، وعادت الأجيال من بعثاتها بعقول مختلفة لتبني كوريا الجديدة التي بدأت من حيث انتهى العلم إلى الحقائق؛ لا من حيث بدأ في طرح الأسئلة القلقة، وهكذا فعل اليابانيون من قبلهم؛ فكيف استلهمت تلك الشعوب أسس النهوض واجتهدت لتبني حضاراتها وأخفقت الأمة العربية؛ بل تراجعت عما أنجزته مطلع النهضة؟!