طارت روحها في الفضاء تسبح فصادفت روحَ صديقة لها فقالت لها: ما شاء الله شكلك بصحة جيدة؛ ممتلئة ولونك مزهر مشرق، مع أنك متِّ وأنتِ غاية في المرض وبعدما تدهورت صحتك!
- نعم، متُّ بالمرض لكن روحي عادت إلى مرحلة قبل إصابتي بالمرض، وأعتقد أن جميع الأرواح التي خرجتْ من الأجساد المريضة ترينها هنا في حالة جيدة؛ في حالة ما قبل المرض.
- ولم لا تقولين إن روحك شفيت من المرض بدلاً من أن تقولي (عادت إلى مرحلة ما قبل المرض)؟!
- لأني في أثناء المرض كرهت عصير البرتقال، والآن أشعر أن نفسي متلهفة إلى كأس من عصير البرتقال. وهناك ما هو أكثر دلالة وأوضح في أن روحي عادت إلى ما قبل مرحلة المرض، هو أن الأشخاص الذين ماتوا بحوادث الطرق وفقدت أعضاؤهم أو قطِّعت جاءوا هنا بكامل أعضائهم أي وهم في مرحلة قبل حدوث الحوادث، وهذا دليل على أن الإنسان تنتهي حياته من الأرض قبل أن يصاب بالشيء الذي يكون سببًا في موته سواء أكان حادثًا أم مرضًا.
- لكني سمعت أن حياة الإنسان تنتهي قبل موته بأربعين يومًا فقط، حتى إن كتابة أعماله (السيئات) وربما الحسنات تتوقف كتابتها في هذه الفترة.
- المهم.. ماذا فعلتِ في الامتحان؟
- الامتحان؟! كيف أخضع للامتحان وجسدي ما زال مسطحًا في المستشفى ينبض تحت الأجهزة، وأنت تعرفين أنه عند الامتحان تُعاد الروح إلى الجسد للسؤال.
- على العموم الأسئلة ثلاثة، وأنت تعتقدينها في الحياة، وستجيبين عنها في الممات.
- لكني خائفة لأني متُّ منتحرة، والمنتحر - كما تعرفين - كافر.
- منتحرة يا ساتر! لماذا؟
- كان اتفاقا بيني وبين سالم، حتى تلتقي روحانا، حين رفض أهلي وأهله زواجنا أن ننتحر في اليوم نفسه والساعة والدقيقة، وفي أثناء مكالمة تلفونية بلعنا كمية كبيرة من الحبوب... ليتك يا رقية تساعدينني على البحث عنه!
- البحث عن الأرواح سهل. في هذا الطريق تمر جميع الأرواح الجديدة، لأنه مدخل البرزخ؛ لذلك دائماً أقف عند مدخل الممر المؤدي إليه، فربما يدخل أحد من معارفي، خصوصًا (رغد).
- رغد، لكن (رغد) طفلة.. الأجدر بك انتظار أحد العجائز من أقاربك ومعارفك.
- لا أريد العجائز... يصيبونني بالإحباط والاكتئاب.
- طيب افرضي أن (سالمًا) مر قبلي خصوصًا أني متسطحة في المستشفى منذ عدة أيام.
- حتى ولو؛ الأمر سهل، مع أن المستجدين يسبحون في الفضاء على استحياء؛ بالإمكان...
- انظري هذه (فاطمة) معلمة الرياضيات التي تسكن في شقة.. سعودية وتسكن في شقة.. منذ متى وهي هنا؟
- جاءت قبلي هي وجميع أفراد عائلتها بسبب حريق أو حادث مروري، لا أدري!
- أكيد بسبب حريق.. تذكرين البسكويت بالسمسم؟
- بسكويت بالسمسم؟!
- نعم، الذي تصنعه من السكر، تضع سكرًا وماء في قدر ثم تتركه ليغلي إلى أن...
- دعي السمسم والسكر يا روح ما بعدك روح.
- زعلت؟! أنا آسفة لم أقصد، وأنا مثلك تمامًا، وحالي من حالك.
- أقول لكِ بالإمكان التقاء روح سالم، لكن لا أعتقد أن روح سالم هنا، لأنه بمجرد تمنيك رؤية أحد معين ستجدينه أمامك مباشرة.
- جيد أنك قلتِ لي هذه المعلومة، حتى لا أتمنى رؤية عمي (صالح)، وجدي (راشد)، فقد رفضت خطبة ابن عمي صالح، وأخشى أن يقولا رفضت ابننا وانتحرت بسبب آخر.
- لهذه الدرجة تحبين (سالمًا)؟!
- كانوا يسموننا لشدة حبنا (مهندًا وسمر).
- مهند وسمر، قصدك مهندًا ونور.
- أوه، صح.. أنتِ من زمن مهند ونور، لا تَعِيْن مهندًا وسمر.. لا.. الآن بعد مهند ونور هناك مهند وسمر، ومهند وجميلة، ومهند ورشا، ومهند وكل أسماء البنات.. سأجرب وأتمنى رؤية خالتي (طرفة)!
- (سمر) بنت أختي! كيف حال أختي وأمي وبقية إخواني؟
- بخير يا خالتي، أوه يا خالتي، انظري! زوجك (فهد).. منذ متى مات؟
- لا يا سمر لم يمت، هو نائم.
- نعم، يا سمر، هذه الطريقة التي كنت سأحدثكِ عنها لالتقاء الأرواح.
- أوه، يا خالتي نسيتُ أن أعرفك، هذه صديقتي رقية.
- طيب يا بنات، لا مؤاخذة... حبيبتي (سمر) أنا مستعجلة لا بد من أطلب من فهد بعض الطلبات قبل أن يصحو من النوم.
- والآن يا سمر ذكرتُ لك طريقتين الوقوف عند مدخل البرزخ؛ وتقولين ربما سبقك في المجيء. والتمني؛ وها أنتِ تتمنين ولا يظهر. فلم يبق لك إلا الطريقة الثالثة التقاء روحه في حال نومه، وهي طريقة تحتاج إلى بحث.
- في حال نومه.. لا أفهم.
- عندما ينام الإنسان تغادر روحه جسده وتسبح في الفضاء بين السماء والأرض أو ما يطلقون عليه البرزخ؛ وعندئذٍ بإمكان روحك أن تلتقي روح سالم مصادفة، وبمجرد أن يستيقظ تذهب روحه عائدة إلى جسده.
- معنى هذا أن الأرواح التي تسبح هنا أرواح أموات وأحياء نيام.
- نعم.
- ما الفرق بينهما؟
- الفرق بسيط (بالشعور)؛ ستشعرين بالميت أنه ميت، وستشعرين بالحي أنه حي.
- يا ويلي، لا أريد أن أرى روحيْ والدي وأخي (محمد) النائمتين! ماذا أفعل؟
- عادي، استخفي!
- رقية، انظري! هذه روح نائمة.
- جيد، كيف عرفت؟!
- شعوري بها أنها حية.
- ممتاز.
- طيب يا سمر، على أذنك سأدخل الممر ربما تمر (رغد) ابنتي.
«أين أنت يا سالم، هل يعقل أنك لم تنفذ وعدك معي ولم تنتحر، هل كنت تخدعني، لا أظن، أنت تحبني أكثر مما أحبك».
* * *
- سالم.. سالم..
- نعم، سمر.. أهلين.
- سالم أنت حي، لم تمت!
- آسف (سمر) خفت من الموت، والانتحار حرام.
- حرام، ولِمَ لمْ تخبرني أنك لن تنتحر حتى لا أنتحر أنا أيضًا؟!
- سمر.. لأني كنت سأنتحر، ووضعت حبتين في فمي، لكن لم استطع أن أضع حبوب العلبة كاملة.
- لكن أنا وضعت حبوب العلبة كاملة مرة واحدة في فمي.
- سمر أنتِ طول عمرك شجاعة.
- وأنت جبان.
- سامحيني يا سمر أنا مازلت أحبك، لكن ما باليد حيلة.
- يا جبان يا خائن سأقتلك!
- سمر.. أرجوكِ ارفعي يدكِ عن رقبتي!
- سأخنقك حتى الموت.
- سمر أرجوكِ أني أختنق.
«استيقَظَ من النوم الجبان.. اختفى.. سأجلس لك بالمرصاد، فلربما يوم من الأيام وأنا قابضة على رقبتك يتأخر استيقاظك، وتبقى روحك معي للأبد».
* * *
- بسم الله الرحمن الرحيم، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، أين الماء يا (نوال)!
- خير إن شاء الله!
- أمي، أين يا نوال؟ تحضر الماء.
- نوال تغسل المواعين.
- أريد رقم مفسر أحلام!
- خير يا ابني، قل لي ماذا رأيت؟
- رأيت سمر تخنقني.
- كابوس يا ولدي، استعذْ بالله، كم مرة قلت لك لا تنام فترة العصر!
- أما زالت سمر في العناية المركزة؟
- الله يكون في عونها وعون أهلها.
- أستطيع أن أذهب لأراها؟
- تذهب، مجنون أنت ونسيت أنك أنت السبب فيما جرى.
- أراها من بعيد، فقط.
- كف الشر يا ولدي!
* * *
- لو سمحتِ يا (آنسة)، كيف حال المريضة (سمر)؟
- اسأل الطبيب المشرف على حالتها! هناك.
- السلام يا دكتور، من فضلك ما آخر تطورات حالة (سمر)؟
- لا شيء.. كالمعتاد، تحت الجهاز.. أهلها مصرون؛ مادام هناك نبض فهي حية.
- وهل هناك أمل في رجوع الحياة إليها؟
- الله أعلم، لكن علميًّا الموت السريري هو موت حقيقي، ولكن الأهل يتشبثون دائماً بالأمل.
- شكرًا.
- أهلاً وسهلاً.
* * *
- ما لكِ يا سمر حزينة ومنقبضة وشاحبة؟
- لا، أبدًا يا رقية، فقط نزعوا عني الأجهزة، والآن هم ذاهبون بي لعمل مراسيم الجنازة، ومعنى هذا أنه قرب موعد دخول جسدي القبر ثم عودة روحي له للسؤال، وأنا خائفة من التلعثم خصوصًا أني منتحرة.
- الانتحار شيء، والإجابة عن الأسئلة شيء. الانتحار معصية، والأسئلة متعلقة بالعقيدة.
- إن شاء الله أسألُ الله الثبات.
- سعاد فهد السعيد