آخر أوراق الخريف العربي التي سقطت وها هي تذروها الرياح، براءة الرئيس الأسبق حسني مبارك من التهم الموجهة إليه، هو ونجليه، وكذلك وزير داخليته ومساعديه، من تهمة قتل المتظاهرين.
هذا الحكم يشير أولاً إلى نزاهة القضاء المصري، وجرأة القضاة، وتلمسهم للعدل.. القاضي العادل لا يحكم بعلمه، أو بمزاجه، أو بما يطالب به الشارع أن يحكم به، قلَّ المطالبون أو كثروا، وإنما بالعدل، ومدى مطابقة الاتهام وأدلته التي أمامه مع نصوص القانون، وإذا كان ثمة شك، ولو كانت نسبته متدنية، فإن هذا الشك يُفسر في مصلحة المتهم.
وكل من تابع هذه القضية التي شغلت الرأي العام المصري، وكذلك العربي، سيلحظ بوضوح، أن (الفعل الجنائي) المتعمد من قبل المتهمين، والإصرار عليه، لا يمكن إثباته؛ وبالتالي فإن قرار البراءة كان منصفا ومتوقعا.
طبعا الانتهازيون، وكذلك من تكتنفهم الرغبة في الانتقام، والتشفي، لم يعجبهم الحكم، واعترضوا عليه، طارحين السؤال: إذا لم يكن الرئيس مبارك والعاملون معه مسؤولون عن قتلى المظاهرات، فمن المسؤول إذاً؟
هيئة القضاء التي نظرت في القضية، ليست مسؤولة عن تحديد الجناة، والتحقيق في من يكونون، وإنما هي تنظر في القضية التي أمامها، وملابساتها، وأدلة الاتهام، ومدى تطابق التهم الموجهة للمتهم مع النص القانوني الذي يُجرم المتهم، وعلى هذا الأساس، ومن هذه المنطلقات، لم تجد في أدلة الادعاء ما يدين المتهمين بما نسب إليهم من جرائم فتمت تبرئتهم؛ أما من هو المجرم، ومن يكون، فليست من مهامها.
وفي أوقات الاضطرابات والفوضى العارمة والفتن يسقط كثير من الضحايا، ويبقى المسؤول عن قتلهم في منأى عن الاتهام وبالتالي العقاب. ليس في مصر فحسب، وإنما في كل أصقاع الأرض التي شهدت أحداثا مشابهة لما حصل في مصر، وأسقطت الرئيس وأركان حكمه، وبسبب العواطف الجياشة التي تكتنف الجماهير في تلك الاضطرابات، يكون اتهام الشارع لرأس النظام ومن يعملون معه، أو بالقرب منه، هو الأقرب لتحمل المسؤولية، وما إن تثوب تلك العواطف الجياشة إلى الهدوء، وتحكيم العقل، وترجيح العدل في الأحكام، يعود الناس إلى الروية والاتزان.. وهذا في رأيي سر تقبل الشارع المصري بشكل عام لتبرئة الرئيس مبارك، إلا قلة قليلة، أغلبيهم من جماعة الإخوان، تظاهروا في بعض الميادين، ولم يكن لتظاهراتهم أي تبعات تذكر. ما يعني -كمؤشر- أن الحكم بالبراءة تقبلته الجماهير المصرية بارتياح.
وليس لدي أدنى شك أن أغلب المصريين عرفوا قيمة الرئيس مبارك، بعد أن جربوا مرسي وجماعة الإخوان، والفترة العصيبة التي لم يعرفها التاريخ المصري قط، اكتنفت فترة ذلك الرئيس البائس المثير للسخرية، وبرلمان (منتخب) أظهر مصر، ونخب مصر، وكأنها دولة لم تعرف الحضارة ولا العلم ولا القانون ولا السياسة ولا كيف يديرون شؤونهم العليا، ما جعل أغلب المصريين (يتحسرون) على فترة الرئيس مبارك، ويعضون أصابع الندم، على تلك التظاهرات والاضطرابات، التي من خلالها، اعتلت جماعة الإخوان قمة القرار المصري، واختطفت ثورتهم، فكادت أن تلقي بهم إلى التهلكة، لولا التحرك الجماهيري الضخم -(ثورة يونيو)- ضد جماعة الإخوان، وتدخل الجيش المصري وإنقاذ مصر من الهاوية.
بقي أن أقول: ما حصل في مصر، وما حصل في سوريا، وما حصل في ليبيا، علمت العرب جميعهم بلا استثناء، إلا المكابرين منهم، أن (الاستقرار)، هو سر بقاء المجتمعات وأمنها، إذا فقدتها تصبح أقرب إلى الإنسان عندما يعيش في صحراء موحشة يحفها السراب والجوع والخوف والهلع من كل جانب.
إلى اللقاء..