وقفت كثيرا عند تصريح المتحدث الأمني لوزارة الداخلية - اللواء - منصور التركي، حين قال: «إن مهمتنا أن نبحث، ونستطلع الأسباب التي جعلت 12% يعودون، وينتكسون، وينضمون إلى هذه الجماعات الإرهابية، والفكر الضال، وسنستفيد من النتائج، وسنحاول تقليل الأعداد التي يمكن أن تعود «، الأمر الذي أثار لديّ كثيرا من التأمل في موضوع التحولات الفكرية الحادة، وإن كان على نحو يستعصي معه الفهم - أحيانا -، والتحليل - أحيانا أخرى -، بعد أن سقطت فئات في ضلالات فكرية، ودخلوا في مذاهب ضالة؛ ليعيدوا لنا إنتاج بدع الخوارج في هذا الزمان.
الهدف المحوري الذي يتغياه أصحاب هذا الفكر المنحرف، عندما يتأثرون بالأطروحات ذات الشبه؛ فتستهويهم، ثم تؤثر على قناعاتهم دون وعي، أو تمحيص، بل يعتبرونها حقا مطلقا، - خصوصا - عندما يتماهى الوجدان العاطفي مع المضامين الدلالية للخطاب المتسطح، - إضافة - إلى قصور الاستعدادات المعرفية لدى المتلقي، كما يبين ذلك - الأستاذ - عبدالله السعوي، والذي يبرهن - بجلاء - على عمق الانفصال بينه، وبين الفقه العقدي - من جهة -، وعلى أساليب الطرح الماكرة القادرة على التسلل بسهولة إلى التركيبة الذهنية للمتلقِّي - من جهة أخرى -، إلى أن يقول: إن هذا المتلقِّي، بفعل ما يحتوي عليه من فقر علمي، وجهل عميق لديه ضرب من السلوك الازدواجي، الذي يتجلَّى على نحو واضح، في تباين تعاطيه مع الأفكار المجسّدة، والمجرّدة، وتباين مواقفه إزاء كل منها، مما يشي بامَّعية فكرية، ضُربت بعمق في أعماق أغواره، فأضعفت عناصر المقاومة في ذهنه، فضلَّ عن الحق، وتاهَ في بَيْداء الوهم، والخيال، كأثر حتمي لتزاوج الهوى الحاجب؛ لصفاء الحقيقة، والجهل اللامحدود، الذي بفعله باتت رؤيته - سطحية هامشية -، فاقدة للرؤية النقدية التي تعتمد التجرد، والموضوعية أبرز أدواتها.
ثم يستطرد قائلا: إن مما يبعث الأسى، هو أن المتلقّي - السالف الذِّكْر -، قد يكون أحياناً ممن يساهمون - في تصوّره - بإثراء الحركة العقلية، ودفعها - لا لتأهيله لذلك -، وإنما لاحتلاله مكاناً أكبر بكثير من مقاساته المعرفية، والعقلية - وهنا تعظم المأساة -، حيث إن جملة الأفكار التي تسرّبت إلى جنانه، واستقرت في حسِّه، وتراكمت في عقله الباطن، هو - الآن - يتبنّى العمل على تصديرها، وإنتاجها، يستهدف بها متلقّياً - هو الآخر بالمواصفات ذاتها -، يستلهمها، فتعانق وعيه، وتكتسح لُبَّه، فيتقولب بمضامينها التي تتغلغل، فتلامس كل جزئية من وجدانه، - وهكذا - تجري عملية التسويق عن طريق الاجترار، بتبادل الأدوار على نحو يثير الشعور بالأسى، والشّجن.
إن الظاهرة باعثة على القلق؛ لتعلقها بالانحلال العقدي، والاختلال الفكري؛ مما ساهم في الجرأة على نصوص الكتاب، والسنة، والتمرد على الأحكام الشرعية، والعقدية بالنقد الخاطئ، والتأويل الهادم. بل وصل الأمر إلى تأويل المسلمات، والثوابت بالهوى، والضلال، ومخالفة عين الصواب، والحق، والخوض في القواعد الأصولية، والفقهية بقياس قبيح، وتلك مقدمات فاسدة لنتائج فاشلة، كان سببها في المقام الرئيس، سوء النشأة المعرفية، وغياب الرموز المؤثرة.
بالتأكيد، سيظل العلماء المحك الأول في التصدي لظاهرة الفكر الضال. - فهؤلاء - وإن ارتبطوا بمنتج وجداني هائل، ومشاركتهم المتقلبة في المعادلة الفكرية المنحرفة، ومن ثم شعورهم الوهمي بأهميته، إلا أن دور العلماء سيكون محوريا في التعاطي مع المرحلة الحرجة، التي تعيشها الأمة - اليوم -، وضرورة مواجهة أصحاب هذا المنهج المشوه على كافة المستويات، - خصوصا - وقد تم تغييب عقولهم عمدا. ولن يتم إغلاق أبواب الفتنة إلا بإدراك الرؤى الواقعية، حين تكون مبنية على رؤية إستراتيجية غير تقليدية؛ من أجل حلحلة تلك الأفكار الضالة.