جيفري د. ساكس:
باريس - يبدو أن مدرستين للفكر تميلان إلى الهيمنة على المناقشات الاقتصادية اليوم.. فوِفقاً لخبراء اقتصاد السوق الحرة، يتعين على الحكومات أن تعمل على خفض الضرائب، والحد من القيود التنظيمية، وإصلاح قوانين العمل، ثم تفسح الطريق لكي تسمح للمستهلكين بالاستهلاك وللمنتجين بخلق فرص العمل.. ووفقاً لاقتصاديات جون ماينارد كينز، فيتعين على الحكومات أن تعمل على تعزيز الطلب الكلي من خلال التيسير الكمي والتحفيز المالي.. غير أن النهجين لم ينجحا في تقديم نتائج طيبة.. ونحن في احتياج إلى اقتصاديات التنمية المستدامة الجديدة، حيث تروّج الحكومات لأنماط جديدة من الاستثمار.
إن اقتصاديات السوق الحرة تقود إلى نتائج عظيمة للأغنياء، ولكن نتائجها بائسة تماماً بالنسبة للجميع غيرهم. والآن تعمل الحكومات في الولايات المتحدة وأجزاء من أوروبا على تقليص الإنفاق الاجتماعي، والحد من خلق فرص العمل، والاستثمار في البنية الأساسية، والتدريب على الوظائف، لأن أحوال كبار الأثرياء الذين ينفقون على الحملات الانتخابية لصالح الساسة على خير ما يرام، حتى في حين تتداعى المجتمعات من حولهم.
بيد أن الحلول الكينزية - المال السهل وعجز الميزانية الضخم - كانت أيضاً بعيدة كل البعد عن تحقيق النتائج التي وعدت بها.. فقد جربت حكومات عديدة الإنفاق التحفيزي بعد الأزمة المالية في عام 2008.. ففي نهاية المطاف، يعشق أغلب الساسة إنفاق أموال ليست بين أيديهم.. ورغم هذا، فشل هذا الدعم القصير الأجل لسببين واضحين.
فأولاً، ارتفعت ديون الحكومات إلى عنان السماء وانخفضت تصنيفاتها الائتمانية إلى الحضيض.. حتى إن الولايات المتحدة فقدت مكانتها الدائمة.. وثانياً، لم يستجب القطاع الخاص بزيادة الاستثمار في الأعمال التجارية وتوظيف العدد الكافي من العمال الجدد.. وبدلاً من ذلك، اتجهت الشركات إلى اكتناز احتياطيات نقدية كبيرة، في هيئة حسابات خارجية معفاة من الضرائب في الأساس.
والمشكلة مع كل من اقتصاديات السوق الحرة والاقتصاديات الكينزية هي أنها أساءت فهم طبيعة الاستثمار الحديث.. فكل من المدرستين تعتقد أن الاستثمار يقوده القطاع الخاص، إما لأن الضرائب والقيود التنظيمية منخفضة (في نموذج السوق الحرة) أو لأن الطلب الكلي مرتفع (في النموذج الكينزي).
ومع هذا فإن استثمارات القطاع الخاص اليوم تعتمد على استثمارات القطاع العام.. إن عصرنا يتسم بهذه العلاقة التكاملية.. فما لم يستثمر القطاع العام، وبحكمة، فإن القطاع الخاص سوف يستمر في اكتناز أمواله أو إعادتها إلى المساهمين في هيئة أرباح أو إعادة شراء.
وينعكس المفتاح الرئيس هنا في ستة أنواع من السلع الرأسمالية: رأس المال التجاري، والبنية الأساسية، ورأس المال البشري، ورأس المال الفكري، ورأس المال الطبيعي، ورأس المال الاجتماعي.. وكل هذه الأنواع المنتِجة، ولكن كل منها يلعب دوراً مميزاً.
يشمل رأس المال التجاري المصانع، والآلات، ومعدات النقل، وأنظمة المعلومات المملوكة للشركات الخاصة. وتشمل البنية الأساسية الطرق، والسكك الحديدية، وشبكات الطاقة والمياه، وكابلات الألياف الضوئية، وخطوط الأنابيب، والمطارات، والموانئ البحرية، ورأس المال البشري هو التعليم، والمهارات، وصحة القوى العاملة.. ويشمل رأس المال الفكري المعرفة العلمية والتكنولوجية الأساسية في المجتمع.. ويتألف رأس المال الطبيعي من الأنظمة البيئية والموارد الأولية التي تدعم الزراعة والصحة والمدن.. ويتكون رأس المال الاجتماعي من الثقة المجتمعية التي تمكّن التجارة والتمويل والحكم من العمل بكفاءة.
وتعمل هذه الأشكال الستة من رأس المال بطريقة تكاملية.. فمن غير الممكن أن يحقق الاستثمار التجاري الربح في غياب البنية الأساسية ورأس المال البشري.. ولا تستطيع الأسواق المالية أن تعمل إذا نضب معين رأس المال الاجتماعي (الثقة).. وبدون رأس المال الطبيعي (بما في ذلك المناخ الآمن، والتربة الخصبة، والمياه المتاحة، والحماية من الفيضانات)، تذهب أنواع رأس المال الأخرى أدراج الرياح بكل سهولة.. وما لم تتوفر القدرة للجميع على الوصول إلى الاستثمارات العامة في رأس المال البشري، فسوف تقع المجتمعات فريسة لأشكال متطرفة من التفاوت بين الناس في الدخل والثروة.
كان الاستثمار يتسم عادة بالبساطة.. وكان المفتاح إلى التنمية هو التعليم الأساسي، وشبكة من الطرق والطاقة، وموانئ عاملة، والقدرة على الوصول إلى الأسواق العالمية.. ولكن اليوم، لم يعد التعليم العام الأساس كافياً؛ وبات العمال في احتياج إلى مهارات عالية التخصص لا تأتي إلا من خلال التدريب المهني، ودرجات علمية متقدمة، وبرامج التدريب المهني أثناء العمل والتي تجمع بين التمويل العام والخاص.. ولا بد أن يكون النقل أذكى من مجرد بناء الطرق الحكومية؛ ولا بد أن تعكس شبكات الطاقة الحاجة العاجلة للكهرباء المنخفضة الكربون؛ ويتعين على الحكومات في كل مكان أن تستثمر في أنماط جديدة من رأس المال الفكري لحل مشاكل غير مسبوقة في مجالات الصحة العامة، وتغير المناخ، والتدهور البيئي، وإدارة أنظمة المعلومات، وغير ذلك.
ولكن في أغلب البلدان، لا تقوم الحكومات بدورها في قيادة أو توجيه أو حتى المشاركة في عملية الاستثمار.. بل إنها تعمل على تقليص مشاركاتها.. ويزعم منظرو السوق الحرة أن الحكومات غير قادرة على الاستثمار المنتج.. ولا يتروى أتباع كينز في دراسة أشكال الاستثمارات العامة المطلوبة: فالإنفاق في نظرهم هو الإنفاق.. والنتيجة هي فراغ في القطاع العام ونُدرة الاستثمارات العامة، وهذا بدوره يعيق الاستثمار الضروري في القطاع الخاص.
الواقع أن الحكومات تحتاج باختصار إلى إستراتيجيات استثمارية طويلة الأجل والسبل اللازمة للإنفاق عليها.. فهي تحتاج إلى التوصل إلى فهم أفضل كثيراً لكيفية تحديد أولويات الاستثمار في الطرق والسكك الحديدية وشبكات الطاقة والموانئ؛ وكيفية جعل الاستثمارات مستدامة بيئياً من خلال الانتقال إلى أنظمة الطاقة المنخفضة الكربون؛ وكيفية تدريب شباب العاملين على وظائف لائقة، وليس فقط تشغيلهم في وظائف قطاع الخدمات المنخفضة الأجر؛ وكيفية بناء رأس المال الاجتماعي، في عصر يتسم بتراجع الثقة وانتشار الفساد إلى حد كبير.
باختصار، ينبغي للحكومات أن تتعلم كيف تفكر في المستقبل.. وهذا أيضاً يتعارض مع الاتجاه الاقتصادي السائد. ذلك أن منظري السوق الحرة لا يريدون أن تفكر الحكومات على الإطلاق؛ ويريد أتباع كينز أن تفكر في الأمد القريب فحسب، لأنهم يفهمون بشكل متطرف مزاح جون ماينارد كينز الساخر الشهير عندما قال: «في الأمد البعيد سوف نكون جميعاً في عداد الأموات».
وهنا نعرض لفكرة تُعَد بمثابة اللعنة في واشنطن العاصمة، ولكنها تستحق التأمل.. إن الاقتصاد الصيني، وهو الأسرع نمواً في العالم، يعتمد على خطط خمسية للاستثمارات العامة، والتي تديرها لجنة التنمية والإصلاح الوطني. ولا يوجد لدى الولايات المتحدة هيئة مماثلة، أو أي هيئة تنظر بشكل منهجي في إستراتيجيات الاستثمار العام. ولكن كل البلدان تحتاج الآن إلى ما هو أكثر من الخطط الخمسية؛ فهي تحتاج إلى إستراتيجيات طويلة الأجل تمتد عشرين عاماً لبناء المهارات، والبنية الأساسية، والاقتصاد المنخفض الكربون اللائق بالقرن الحادي والعشرين.
مؤخراً، اتخذت مجموعة العشرين خطوة صغيرة في الاتجاه الصحيح، من خلال إعادة التأكيد على الاستثمار المتزايد في البنية الأساسية باعتباره مسؤولية مشتركة بين كل من القطاعين العام والخاص.. ونحن في احتياج إلى المزيد من هذا النوع من التفكير في العام المقبل، حيث تتفاوض الحكومات على اتفاقيات عالمية جديدة بشأن تمويل التنمية المستدامة (في أديس أبابا في يوليو - تموز 2015)؛ وأهداف التنمية المستدامة (في الأمم المتحدة في سبتمبر - أيلول 2015)، وتغير المناخ (في باريس في ديسمبر - كانون الأول 2015).
وتَعِد هذه الاتفاقيات بإعادة تشكيل مستقبل البشرية نحو الأفضل.. وإذا كان لها أن تنجح في هذه المهمة فلا بد أن يفتح عصر التنمية المستدامة الجديد السبيل لظهور اقتصاديات جديدة تقوم على التنمية المستدامة أيضاً.
جيفري د. ساكس - أستاذ التنمية المستدامة، وأستاذ السياسات الصحية والإدارة، ومدير معهد الأرض في جامعة كولومبيا، ومستشار الأمين العام للأمم المتحدة الخاص لشؤون الأهداف الإنمائية للألفية.
حقوق النشر: بروجيكت سنديكيت، 2014.