دومينيك مويسي:
في المواجهة الجارية مع روسيا بشأن أوكرانيا، كان ضعف السياسة الأوروبيَّة وانقساماتها من الأسباب التي شَجَّعَت الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بقدر ما شَجَّعَه النهج المتردد الذي تبنَّته أمريكا في التعامل مع سوريا. وإذا كان لأوروبا أن تتصرف بمسؤولية فلا بُدَّ أن تتحدد سياستها في التعامل مع روسيا على ضوء ثلاثة مفاهيم رئيسة: الحزم، والوضوح، والرغبة في التَّوصُّل إلى تسوية مقبولة.
فأولا، في غياب الحزم لن يتحقَّق أيّ شيء. لا شكَّ أن الدول الأوروبيَّة والولايات المتحدة ارتكبت العديد من الأخطاء في أعقاب انهيار الاتحاد السوفييتي. وبوسعنا أن نتهم الولايات المتحدة بشكل خاص بالتصرف بقدر كبير من الغطرسة وامتهان كرامة روسيا بلا أيّ داع. ولكن زوال الاتحاد السوفييتي كان نتيجة لسلسلة طويلة من الأخطاء والعثرات، بدءًا بعجز روسيا ما قبل الحقبة السوفييتية عن التصالح مع الحداثة. ولا يزال لزامًا على قادة روسيا ما بعد الحقبة السوفييتية أن يواجهوا تلك الاخفاقات.
فمن خلال تبني موقف رجعي عدواني، ارتكب بوتين خطًا تاريخيًّا وإستراتيجيًا، في حين كان ينبغي له أن يتبنى نموذج بطرس الأكبر، وأن يطمح إلى ربط مستقبل روسيا بمستقبل أوروبا. غير أن بوتين استمد الإلهام من نيقولا الأول، أكثر قياصرة روسيا رجعية في القرن التاسع عشر.
وقد يكون بوسعنا أن ندرك مدى فشل سياسة بوتين بعقد مقارنة بين روسيا والصين. الواقع أن الفجوة بين البلدين ـ من حيث سلوك كل منهما وإنجازاته ـ لم تكن في أيّ وقت مضى أعظم مما عليه الآن. ففي قمة مجموعة العشرين الأخيرة في بريسبان هذا الشهر، استخدمت الصين أوراقها ببراعة شديدة، فأبرزت حُسن نواياها، وخصوصًا فيما يتصل بقضية تغير المناخ. وفي الوقت نفسه، بدت روسيا وكأنها حريصة على عزل نفسها ـ وهو تصرف مثير للشفقة، وخصوصًا في ضوء العواقب الوخيمة التي ستحل على اقتصادها بسبب عزلتها.
وبالفعل، تُشرِف سوق البورصة في روسيا على الانهيار، كما خَسَرَت عملتها 30 في المئة من قيمتها، وانخفضت أسعار النفط والغاز ـ الدعامة الأساسيَّة لميزانية الكرملين ـ بأكثر من 25 في المئة. وعلى النقيض من اقتصاد الصين، يعتمد اقتصاد روسيا بشكل كبير على مواردها من الطاقة، الأمر الذي يجعلها عُرضة للمخاطر عندما تتجه أسواق الطاقة العالميَّة إلى الهبوط.
إن قوة بوتين الوحيدة تكمن في ضعف أوروبا وترددها في اتِّخاذ القرار. لذا، فإنَّ هدف أوروبا الآن لا بُدَّ أن يتلخص في رسم حدود واضحة لطموحات بوتين. وسواء كان يسعى إلى أضعاف أوكرانيا أو توسيع رقعة أراضي روسيا، لا بُدَّ أن تكون استجابة أوروبا حازمة. ولا بُدَّ من إقناع بوتين بأنَّه لن يتمكن من تحقيق أيّ من هاتين الغايتين من دون أن يتكبد ثمنًا لن يتحمَّله الروس عن طيب خاطر.
ونظرًا لسلوك الكرملين الغامض ـ إن لم يكن سياسة الخداع التي ينتهجها عمدا ـ فيبدو من الواضح أن فرنسا لا ينبغي لها أن تسلم روسيا السفينة الحربية الهجومية من فئة ميسترال التي وافقت في وقت سابق على بيعها لروسيا. فمن الأفضل كثيرًا بالنسبة لفرنسا أن يُنظَر إليها بوصفها تاجر سلاح لا يمكن الاعتماد عليه بدلاً من اعتبارها عنصرًا إستراتيجيًّا غير مسؤول ولا يهتم بغير مصالحه التجاريَّة البحتة.
ولا بُدَّ أن يكون الحزم مصحوبًا بالوضوح. ذلك أن بوتين لم يَعُد ذلك الزعيم الذي كان عندما وصل إلى السلطة في عام 2000، وليس حتَّى الزعيم الذي كان في عام 2008، عندما استولى على أجزاء من جورجيا بالقوة. فتحت حُكمه الاستبدادي المتزايد المركزية، جمع بوتين بين القومية الدينيَّة المتطرفة وتكتيكات وممارسات الحقبة السوفييتية. وهو مزيج خطير وقابل للاشتعال، ويعتمد على المبادئ والأساليب التي قادت الإمبراطوريات الروسية ـ القيصرية والسوفييتية ـ إلى الفشل والخراب.
ولا غنى عن الحزم والوضوح بكلِّ تأكيد. ولكنهما لا يكفيان لصياغة سياسة أوروبيَّة متماسكة. فلا يمكن أن يكون الهدف ببساطة احتواء روسيا. بل لا بُدَّ من التَّوصُّل إلى تسوية. صحيح أن روسيا تفتقر إلى السبل اللازمة لتحقيق أهداف بوتين، ولكن بقية العالم تحتاج رغم ذلك إلى تعاون الكرملين ونواياه الحسنة في ملاحقة جهود مثل احتواء طموحات إيران النووية ومحاربة تنظيم الدَّوْلة الإسلاميَّة.
ولكن ما دامت روسيا عازمة على تحقيق نتائج غير مقبولة، فضلاً عن تلميحاتها إلى الجاهزية النووية، فإنَّ التَّوصُّل إلى تسوية لن يكون بالمهمة السهلة. إن بوتين بعيد كل البعد عن كونه شريكًا مثاليًا في أيّ جهود رامية إلى التوفيق بين المبدأين الرئيسيين في القانون الدولي: حق أيّ شعب في تقرير مصيره وحُرمة الحدود الوطنيَّة. ولكن القيام بهذا ليس بالأمر المستحيل.
ينبغي لأيِّ تسوية أن تعالج مستقبل شبه جزيرة القرم، التي أصبحت الآن تحت السيطرة الروسية، وأن تصون استقلال أوكرانيا. ولا بُدَّ من إقناع بوتين بأنَّه خسر أوكرانيا عندما اغتَنَم شبه جزيرة القرم. ومن جانبهم، يتعين على قادة أوكرانيا أن يتعهدوا بعدم الانضمام إلى منظمة حلف شمال الأطلسي، في مقابل قبول روسيا لحق أوكرانيا في الالتحاق بعضوية الاتحاد الأوروبي. ولا بُدَّ أن يعقب ذلك إزالة العقوبات تدريجيا، والسماح لكل الأطراف بتركيز طاقاتها على أولويات أخرى، سواء كانت اقتصاديَّة أو إستراتيجية.
في مفاوضاتها مع روسيا، تحمل أوروبا بين يديها الأوراق الأقوى. ولكن إذا لم تُحسِن استغلال هذه الأوراق، كما كانت حالها حتَّى الآن، فسوف يستمر بوتين في الفوز في كلِّ مواجهة بين الطرفين.
دومينيك مويسي - أستاذ في معهد الدراسات السياسيَّة في باريس، وكبير مستشاري المعهد الفرنسي للعلاقات الدوليَّة، وأستاذ زائر لدى كينجز كوليدج في لندن - باريس.
حقوق النشر: بروجيكت سنديكيت، 2014.