(نحن نصنع في رواياتنا ما لا نستطيع أن نصنعه في حياتنا. لو تمكّن كل روائي من أن يفعل في حياته ما يريد لما اكتظت المكتبات بالروايات. يخطئ الذين يعتقدون أن الرواية سيرة شخصية، الشعر هو حياتنا، أما الرواية فهي حياتنا كما نتمنى أن تكون)......
لم أدك قلاع الرواية بعد، بل ولم أجدّف في بحرها اللجي، أو أعبر محيطها، حتى أقرّر ما إذا كان الدكتور غازي القصيبي صادقاً في عبارته هذه الواردة على لسان (يعقوب العريان) بطل روايته (رجل جاء.. وذهب) الصادرة عن دار الساقي عام 2002م.
وأظن أني فاشلة لو ولجت معترك الصحافة، وعرضت المقولة على زمرة روائيي المنطقة والخليج العربي لأستطلع مدى مقاربة ما جاء فيها للواقع..!
وهل هم في رواياتهم يتطرقون لما لا يستطيعون صنعه في حياتهم لدرجة أن العلة في اكتظاظ المكتبات بالروايات هو الفضفضة، وإطلاق العنان لما يتمنونه أن يكون في حياتهم، وعجزوا عن فعله.
كقاصة متواضعة العطاء أجد أن فضاء القصة رحب، واسع مشرع، إذ ألج عوالم لم ألجها من قبل، واجتاز حدوداً لم يتمكن لي اجتيازها ما لم أبرز جواز سفر، أو (تأشيرة).
* * *
أمارس حريتي في ارتكاب ما شئت من أخطاء، وعثرات، وهفوات في صيغة ضمير الغائب، أو المتكلم.. وصيغ وشخوص عدة في سياق (منولوجي) خاص أو (ديالوجي) عام.. استنطق من شئت وألجم لسان من لا أشتهي، أعلي قدر ذاك، وأقلل من شأن الآخر من شخوص قصصي، قد أتجاوز الخطوط الحمراء، وأحكم بموت البطل، وذلك جميعه يأتي به كل قاص بأسلوبه، وحبكته في بداية القصة، ونهايتها، وأحداث منتصفها.. يسهب في الخيال الممزوج بالواقع، ويتمادى في الواقع المطعم بالصور البديعة، والجناس والطباق وقد يحلّق في سماء اللغة الشعرية، ويتقمص الأحداث حتى السكر.
لكن.. هل هو يفعل ذلك لشعوره بأنه عاجز عن صنع أشياء في حياته، فقرّر تسجيلها في قصته كما قرّر الروائي (يعقوب العريان) بطل رواية القصيبي آنفة الذكر.
الرأي يمثّل (يعقوب العريان).. وقد يمس جزءاً من قناعات القصيبي، وربما لا، ولو سلَّمنا جدلاً بصدق الرأي.. فهل الروائي هنا ناقم على عدم تمكّنه من صنع أشياء في حياته، فصاغ روايته (النوم مع السراب) يلوك الأسى؟ أم أنه يرى في عدم استطاعته تحقيق ما يود أن تكون حياته حرمان خير شرّع أبواب الرواية في وجهه، فدلف بوابتها مبدعاً..؟؟
في مكان آخر من الرواية قال (يعقوب العريان): (نحن نصنع بخيالنا ما تمنعنا طبيعتنا من عمله).
أمر طبيعي لا جديد فيه.. ولكنه - كما أسلفت - يمنح المحروم نعمة الولوج من خلال بوابة الأدب ممتطياً صهوة الرواية، والقصة لسعة أفقها، وخلوها من سياج الوزن والقافية التي قد تشكِّل عائقاً للمبدع الشاعر يقيده بحدود ينبغي أن لا يتجاوزها.
* * *
مهما كان سبب تدفق سيل الروايات، وتشعب أساليبها، وتنوّع مادتها، وتعدّد فكرتها، وكثرة كتّابها، فإنها تظل النكهة التي لا تشبه سواها، ويظل القارئ النهم يتتبع إصدارات كتّابها، ويضيق الخناق على مؤلفيها إذا نفدت طبعتها قبل أن يحصل على نسخة منها، فيرغمهم على إهدائه نسخة أو صورة منها، فكيف به إذا أسهب الكتّاب في قراءة نقدية، أو انطباعية لرواية من الروايات لم توزع بعد، أو وزعت بمستوى ضعيف، وأغلق الروائي المؤلف نوافذ الاتصال به؟!