منذ إطار زمني أصبح وجوده اليوم يتبلور في ثبات بعض المشاهد والصور في المخيلة، حين كانت متطلبات المعرفة في الصغر تخاتلنا أحيانًا من خلال مصادرها، ونحن نسمع عن عيون الأحساء التي ليس كريّها شيء؛ وعن مشروع الري والصرف الذي يضاهي أعلى مراقي الصعود اليوم، وعن الواحات المتسامية بنخيل يهادينا بما تحوي العذوق، وفي فضاءات الدراسة الجامعية حين حازت جامعة الملك سعود آنذاك العدد والعتاد بين نيف من الجامعات؛
كانت هناك صفوة خيّرة من الأحساء أو الحساويات كما يلبسهن العامة تلك الصفة؛ ألفونا قبل أن نألفهم، وكان الإيثاروالتسامح بوابتهم إلى نفوسنا جميعًا، وأصبحنا نقرأ معهم مقررًا دراسيًا، أعدوه وحملوه وتمثلوه؛ هو التعايش الحميم واحترام الإنسانية؛ وفي محيط العمل التربوي اليوم وما أجدره من محيط يحمل كل أسباب النماء وأدواته، كانت للأحساء ملاحم في تفوق أبنائها؛ حيث تعاهدت هذه الرقعة الحبيبة من وطننا مع قاطنيها أن يكون لهم في كل عام مشاعل تتقدم وتصل إلى نقطة النهاية.
ولي مع مجلة (هجر) الأحسائية المنشأ والولادة وقفة أخرى، تحدث مؤسسها الشيخ عبد الله بن خميس عن ذلك المحضن المثقف الواعي حين حوى انطلاقتها لتكون بداية بزوغ شمس الصحافة في تلك الربوع.
فيض من كثير في مستويات متعددة من التذكر، اكتملت مع حكايات تنموية أخرى يقودها أبناء تلك الأرض الطيبة حتى أصبحت الأحساء زمنًا نموذجيًا جميلاً أو نموذجًا للزمن الجميل، زمن الحياة وإيقاعها الذي أشرق فأصبح حقيقة ذات أبعاد حضارية ترى رأي العين.
صار المجتمع الأحسائي جمعًا يملأ حركة المشهد في تلك الحاضنة الرؤوم، ويعكس الرغبة في تحقيق الامتلاء الوطني في كل أمر، وأمله العيش الرغيد ومنهجه الولاء المديد.
نعم إنها الأحساء بفضاءاتها المكانية الرحبة، وأهلها منذ الأزل، وهم استثناء قادر على تلبية الحاجات والإصرار والعزيمة للنزوع خارج دائرة الاحتمالات الكئيبة، وفتح النوافذ مشرعة لدخول التوقعات الأكثر بهجة واشراقًا، أليست الأحساء هي التي أنجبت شاعرًا حكيمًا ابن المقرب الذي قال:
ليس العظامي الفخار بمدرك
شرفا بباقي رمة كهباء
لكن عصامي كفته نفسه
شرف الجدود ومفخر الآباء
إن استطرادنا في محاسن المكان وأهله، هو ما يزيد من حدة الاستنكار لفعل المارقين الذين شوّهوا الجمال وجعلوا أحساءنا الحبيب يبكي بعض أبنائه في تلك البقعة الوارفة؛ وتداعى لها كل الوطن بالسهر والحمى.
حينما حدث في (الدالوة) اعتداء على الأبرياء، وهم آمنون في سربهم وأخذوا على حين غرة من حيث لا يعلمون.
في ذلك اليوم الأليم احترقت الأوراق في لهيب الشوارع المعتدية وأكلت الشمس ما تحت الأقدام، وما فوق الرؤوس، ذاك هو الحيز الذي صنعت فيه أدوات الجرم والإجرام بحق الأبرياء.
منذ ذلك الحدث أصبح الموقف الوطني يسعى إلى الوصول إلى إجابات محورية لأسئلة أكثر عمقًا، حيث إن مواطن الأحساء هو مواطن هذه البلاد الطاهرة، وأن قيم الإسلام العليا تحتم احترام الإنسان في قالبه، فلسنا بحاجة إلى افتراض جدل أو نقاش حول ذلك الاحترام والتسامح والتآخي، فقد أطلقها نبي هذه الأمة محمد -صلى الله عليه وسلم- حين قال: «كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه، التقوى ها هنا، وبحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم» رواه الترمذي.
وحتمًا فإن التواشج في الشعور الجمعي تجاه الاعتداء الآثم لا سبيل إلى تفسيره سوى أنه رحلة أخرى وأخرى إلى واقع يقودنا إلى محطات سفر مشتركة البوابات نحو التآزر والتراحم والتلاحم، وفي كل نقاط الوطن الغالي في الأحساء، وفي كنوزنا الأخرى لا بد أن نتجاوز ما يحيط بنا في ذات المكان؛ وأن نسعى إلى تمتين اللحمة الوطنية؛ وأن لا يكون هناك جدل حول مقاصد المواطنة وأهدافها؛ وأن الأحداث المروعة وإن حدثت في فضاء من فضاءات الوطن لا بد أن تكون مصنعًا لمراكب العبور نحو وطن آمن بإذن الله.
إن ثنائية الوطن وأمن الوطن هي ملحمتنا الحاضرة التي نشدو بها وتمثل اتحادنا وتآزرنا إلى الأبد.
(لك يا منازل في القلوب منازل).