فُتح باب الفتن على الأمة مع بداية تفقه الصحابة على عثمان، رضي الله عنهم أجمعين. فخالف بعضهم عثمان حتى فيما وافقوا عليه الفاروق من قبل، كمتعة الحج مثلاً. وما كان الصحابة رضوان الله عليهم ليساوموا في دينهم خوفاً من درة عمر، وما كان للفاروق ولا لذي النورين أن يُحدثا في دين الله أو أن يبدلا. ولكن دين محمد جاء بالتوحيد وبعبادات معلومة وبأحكام تحمي جناب التوحيد وأحكام تنظم للناس حياتهم، غالبها تدور حول فقه الذرائع في أمر أو نهي من الشارع لتنظيم حياة الناس وتمنع الشرك مادامت ذريعته قائمة، فمتى زالت فيبقى التشريع لتعليم المسلمين الحكمة في التشريع، ليتعلموا منه طرق التفكير المنطقي في سن أنظمتهم لمعاشهم في الحياة الدنيا، ولكي لا يكون عليهم في الدين من حرج.
ولا أقوى شاهداً وأثبت دليلاً من عدم عمل الفاروق ومن بعده بسورة الأنفال، فيكفي بها حجة. فهي قطعية الثبوت والدلالة، فهذه من السبع الطوال، ولا يشك أحد في عدم عمل الفاروق والأمة بها من بعده. وعدم العمل بها ليس افتياتاً على شرع الله، بل هو اتباع لشرع الله بإرجاع الحكم لأصله الشرعي بالبراءة الأصلية.
أما منع الفاروق لما لم يحرمه الشارع، فلا يسمى شرعاً، بل قرار إداري يُنقض بقرار إداري عند انتهاء صلاحيته كمنع متعة الحج وعقوبة إيقاع الطلاق الثلاث. تماماً كما أن الأوامر الإدارية من إشارة المرور إلى ما فوقها، تسمى أوامر إدارية. فلا والله، يُنسخ الوحي المنصوص عليه بالنص أو مسكوت عنه بالبراءة الأصلية لقول بشر.
فلم ينسخ فعل الفاروق سورة الأنفال، لكن فعل عمر أرجع لله الحكم في سواد الشام والعراق. فسورة الأنفال نسخت البراءة الأصلية لذريعة، فلما زالت الذريعة رجع الحكم الشرعي لأصله وهو السكوت عنه وترك تنظيمه للناس. وما قيل في الأنفال لا يختلف ولا يتبدل في كل قرارات الفاروق وذي النورين التي لم توافق النص الناسخ للبراءة الأصلية. وإدراك الذريعة وتقييمها هي للحاكم المسلم صاحب الولاية الكبرى، ولي أمر المسلمين. ويكفي في هذا فيما رواه مسلم من حديث عمار في التيمم من الجنابة «فقال عمر: اتق الله يا عمار! قال: إن شئت لم أحدث به؟» وفي لفظ: قال عمار: يا أمير المؤمنين! إن شئت لما جعل الله علي من حقك أن لا أحدث به أحداً؟ .
فعمار كان أعلم من الفاروق في هذه المسألة، فهو أفقه منه فيها. فلو عادت للفقه والشرع لوجب على عمار التحديث بها. والتيمم وسيلة لا غاية، فالحق الشرعي للحاكم الذي أشار إليه عمار. هذا الحق هو لمصلحة المسلمين، لإدراك الحاكم بالذرائع بحكم موضع مسئوليته. فأفعال عمر وطاعة الصحابة لها وفعل عمار وقوله أدلة صريحة تفسر حديث «إلا أن تروا كفراً بواحاً»، كما تثبت أن الحاكم هو صاحب القرار في غالب أمور الدين لا الفقيه.
وقد أثبت التاريخ سنّة عمر وفقه عمار، فما انزلقت الأمة في مستنقعات الدم والمذابح والفتن، إلاّ من بعد أن تُجرأ على مقام الولاية العامة تأولاً باسم الفقه والفتوى وتقديم قول الرسول، فعاد أمير المؤمنين شهيداً في محرابه.
وما كان لعلي وابن مسعود رضي الله عنهما غرض من دنيا في مخالفة عثمان فيما وافقوا فيه عمر من قبل، إلا اجتهاداً، دخل الشيطان عليهما من باب الورع، فكان أمر الله، فتجرأ الجهلة الغلاظ على أمير المؤمنين علي كذلك بمدخل الشيطان، دخل عليهم من باب الورع فخرجوا على علي كرم الله وجهه، وفُتح باب الفتن بعد ذلك.
وأعظم نتيجة نتجت من فتنة مقتل عثمان، هي فتنة ما استقرت عليه ثقافة الفقهاء بعد ذلك، في مشاركة الحاكم للسلطة ما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً. وقد رسخت هذه الثقافة في نفوس الفقهاء لاستحسان فطرة النفس البشرية لها وتطلعها للسلطة، فهم يفعلونها تعبداً وتقرباً إلى الله يتأولون بها مصلحة الإسلام والمسلمين، فما زادوا الأمة إلا جهلاً وفتناً. ويكفي شاهداً في هذا التحريم بسد الذرائع الذي مارسه الفقهاء منذ القرون الأولى مستدلين بالفاروق، متجاهلين أنّ الفاروق لم يُحرم بل منع أحياناً بقرار إداري كما يُمنع قرار إداري اليوم قطع إشارة المرور. واستخدم الذرائع لا للتحريم بل للتحليل وإعادة الحكم لله إذا كان الحكم معلقاً بذريعة وقد زالت ذريعته.
فما هم بأفقه من عمر ولا أورع من عمار. ولا هم بأورع وأصدق عقيدة من عمر من عبد العزيز وهو يهدم حجرات الرسول ويدخل القبر النبوي في المسجد، ولا هم بأعلم ولا أفقه من أئمة الفقهاء في القرن الأول المفضل الذين وضعوا لنا أصول الدين، وقد حضر سبعة منهم إدخال القبر الشريف فلم يعترضوا هم ولا من بعدهم، على عظم تعلق الموضوع في العقيدة. ولكن الحاكم رأى أن الذريعة قد زالت، والنهي من باب الوسائل، فالحق له كما قال عمار لعمر، ووافقه عمر والصحابة على ذلك.
وما كان الفقهاء آنذاك - على بساطة الدنيا - أعلم بالذرائع والمقاصد من الحاكم فيتأولوا نزعة النفس للسلطة، فيخفوا حكم الله، ويلبسوا الأدلة لينازعوا الحاكم في قراراته. فكيف يكون الفقهاء أعلم اليوم بالمقاصد والذرائع وقد تعقدت العلوم وتنوعت وتشعّبت.
هو النبي لا كذب، فقد أخبرنا وهو الصادق الأمين «لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة».