ظهرت الحاجة في الخمسينات لظهور علم الاقتصاد الكلي كعلم مستقل وذلك كنتيجة لتعطل التجارة الدولية بسبب عدم وجود عملة دولية موثوق بها. وذلك بعد أن أثبتت التجارب عبر التاريخ استحالة استمرارية التزام الدول بتغطية عملاتها بالذهب المتعهدة به بالقيمة المربوطة عليها به. أضف إلى ذلك فقدان بريطانيا خاصة وأوربا عموما، لكل ما تملكه من الذهب خلال الحرب العالمية الأولى والثانية، وتجمع غالب ذهب العالم في أمريكا. فلا ذهب عند الدول، ولا ثقة بالعملات المربوطة بالذهب، فما أصبح هناك من وسيلة تبادل دولية قياسية مُحددة موثوق بها، فلا إمكانية لتجارة دولية، فتعطلت التجارة الدولية تماما مع الحرب العالمية الثانية.
فنظريا، فإن الذهب يوازن بين الاقتصاديات الدولية عن طريق التجارة الدولية. ولكن عمليا فالذهب يعطل التجارة الدولية بسبب خنقه لتطور وتقدم ونمو الاقتصاد المحلي وتسببه في الأزمات الاقتصادية التي تؤدي بالتالي لعدم التزام الدول بتعهد الربط بالذهب.
وقد كانت فكرة عزل أثر النقود تماما من دراسة الإنتاج والسوق المحلية، هو الفكر الاقتصادي السائد قبل ظهور علم الاقتصاد الكلي في الأربعينات ومن بعد ظهوره حتى السبيعنات. فالذهب -وما يحل محله من عملات مرتبطة به-: هو جماد من الجمادات غير المُنتجة وغير المتغيرة في الاقتصاد المحلي. والجامد غير المُتغير يُجمد غيره لا يُغيره. فإن صلح الذهب للاقتصاديات الزراعية والبسيطة الجامدة النمو قديما، فإنه ما عاد يصلح للاقتصاد الصناعي المتطور النمو والزيادة. فقد أصبح دور الذهب في الاقتصاد المحلي هو تثبيت الاقتصاد بمنعه عن الطفرات التنموية التي تخلقها الاختراعات الحديثة وبالتالي إعاقته للتقدم الإنساني العلمي، مع خلقه لانكماش اقتصادي بعد إحباط كل محاولة نمو للاقتصاد. فالاقتصاد هو الأنتاج، فإذا كان متغيرا أحتاج لنقود مرنة تزيد وتنقص مع زيادة الإنتاج ونقصانه.
فالنقود إذا كانت تتوفر وفق الاحتياجات السوقية المحلية للتبادلات التجارية الإنتاجية لا الفقاعية نجحت العملة المحلية لذلك السوق وكسبت الثقة وحفظت قيمتها وحافظت على استقرار اقتصادها ونموه. وإن كانت تتوفر بأكثر من احتياجات السوق المحلية فشلت العملة وخسرت الثقة وفقدت قيمتها وخلقت التضخم وأفسدت الاقتصاد. وإن كانت تتوفر بأقل من احتياجات السوق التبادلية الإنتاجية شحت السيولة فزادت قيمتها فيفشل الاقتصاد بشح السيولة وبانخفاض الأسعار المُعطل للاستثمار.
ففي نظام الربط بالذهب، ما أن تظهر ملامح طفرة اقتصادية مبنية على اختراع جديد، وتتحرك الهمم الإعمارية والاستثمارية له، وتُوضع أول لبنة في سلم التطور ويبدأ تزايد الإنتاج، إلا ويختفي الذهب من السوق وذلك لمحدوديته فلا يستطيع تغطية السيولة الاستثمارية التوسعية الكافية. فيسبب الانكماش وبالتالي ضياع الطفرة العلمية. حتى إذا ما ضاعت الفرصة بسبب القضاء على كل مُخترع ومُنتج ومستثمر بسبب ندرة الذهب (السيولة)، وذهبت بإفلاسه الحاجة للسيولة، عاد الذهب فتوافر بعد ذهاب الفرصة وانهيار الاقتصاد فيكثر الذهب عن حاجة السوق ويخلق التضخم من غير نمو. وهكذا في صعود يمحوه هبوط، في دورات اقتصادية أفقية ثابتة النمو -ليست تصاعدية متزايدة- ومتتابعة، تُرواح بالتطور الإنساني في مكانه، بعد أن شُد وثاقه إلى حفرة التخلف العلمي بسلاسل من الذهب. فالتقدم العلمي يحتاج إلى سنوات متواصلة لبناء الاختراع الجديد من خلال النمو الاقتصادي الذي ابتدأه هذا الاختراع.
فقد كان النظام النقدي القائم على الذهب، كنظام الأمطار والعواصف، لا يد ولا إرادة للانسان فيه. فقد ينقطع المطر فيموت الزرع والبهائم. وقد تأتي العواصف ويزيد المطر فيهلك الخلق والرزق. وقد تعايشت المجتمعات مع الذهب كتعايش العالم مع تغيرات الطقس. ولو تمكن الإنسان من التحكم في الطقس، لاختلفت حياته ولتوسعت إمكانياته بما قد لا يخطر على بال امرئ اليوم. ولكن الله لم يأذن لنا بذلك بعد.
وهكذا استمر الذهب في معاندة التقدم العلمي الإنساني بمخالفة اتجاهاته حتى جاء الله بالحروب العظمى التي جاءت مقترنة باختراع الآلة ومقترنة مع بدايات النهضة العلمية المعاصرة، مما سبب ثورة الإنسان على الذهب وخلعه عن السلطة النقدية. وأورث الله مُلك السلطة النقدية للبنوك المركزية عن طريق نظام نقدي رقمي، قائم على تسجيل ومسح لأرقام في دفتر محاسبي، مُجرد عن أي قيمة في ذاته في أعلى صور الاستغلال الأمثل للموارد. فهو مجرد سجل حسابي وقلم ينتج ما تشاء من السيولة ويسحبها، بدلا من تضييع الموارد على الذهب والتقيد بقيوده الاعتباطية على السيولة. وخلق الله للسوق آلية نجاح هذا النظام في صورة محكمة كونية، لا خطأ فيها ولا سهو. هذه المحكمة هي السوق النقدية المحلية والعالمية. وأصبح البنك المركزي هو المسئول عن زيادة النقود أو إنقاصها بالزيادة في أرقامها أو مسحها في دفتره المحاسبي، وفقا لمعطيات السوق الإنتاجية. فالتبادلات التجارية التي تزيد من الطلب على السيولة لا تزيد إلا بزيادة الإنتاج - أي النمو- أو بالفقاعات المضاربية. ولا تنقص التبادلات التجارية التي تنقص الطلب على السيولة الا بانخفاض الإنتاج.
فاستطاعت بذلك الطفرة التنموية على إتمام دورتها الزمنية الإنتاجية المتزايدة بسبب عدم انقطاع تزايد السيولة عنها والتي يوفرها البنك المركزي فيزيدها عاما بعد عام، بزيادة الأرقام في سجل دفتره، حتى يكتمل نموها. فإذا ما اكتملت طفرة النمو، وأصبحت الحركة السوقية فقاعية، فهي مجرد مزايدة سعرية على الإنتاج الموجود، قام البنك المركزي بمسح الأرقام النقدية من دفتره المحاسبي، أي سحب السيولة. فيمنع بذلك التضخم الناتج عن المزايدة على الأسعار والناتج عن تدوير الاقتصاد للإنتاج، أو توقعات غير صحيحة من غير إنتاج جديد.
هذا هو ملامح الاقتصاد النقدي الحديث الملائم للاقتصاد الصناعي التكنولوجي المتضاعف الإنتاجية. وأما ما يسمى بالاقتصاد الإسلامي وتبعياته كالصيرفة وغيرها، فهي أطروحات تتصور نظاما اقتصاديا لا يمت إلى الواقع بشيء أي أنها معاندة ومخالفة لسنن الله الكونية في خلقه للسوق. فما هي إلا أحاديث فيها قليل من فلسفة بقايا اقتصاد الذهب وكثير من أساطير الأولين والاشتراكيين التي دخلت من خلال الكتب العربية التي كتبها وترجمها رواد البعثات الأولى، حين كانت الفلسفة الاشتراكية هي المهمينة حتى على كثير من كبار المسئولين والاقتصاديين الأمريكان والأوربيين، فما بالك عن العرب.
وجامعاتنا بتدريسها الاقتصاد المتأسلم وصيرفته إلزاميا وكأنه حقيقة أو رأي له حظ من نظر، مع ثقافتنا الاقتصادية والاستثمارية التي شكلها التخطيط المركزي عبر العقود الماضية، مع ركض بنوكنا وشركاتنا وسوقنا للأرباح عن طريق استغلال أطروحات هذا الاقتصاد المتأسلم لصالحهم مع الباحثين عن الشعبية أوزيادة المتابعين في تويتر بالصياح والزعيق لمناصرتها: هي سلوكيات كانت وما زالت تعاند خلق الله لتحقق لنفسها وبلادها خسران الدين والدنيا. فالشرع لم يأت بشيء من هذا، لا تصريحا ولا تلميحا. فلم يكن هناك ما يسمى بالاقتصاد الإسلامي. وماظهر هذا المسمى الا بصدور كتاب «اقتصادنا» لباقر الصدر، ثم تلقفه منه الأخوان المسلمون ونصبوا أول راية له في بلادنا لنشره عالميا رغم مقاومتنا داخليا لتطبيقه ابتداء، قبل أن نستسلم له اليوم تماما. وأصبح اليوم ذا سلطة بلطجية ظهرت إرهاصات مخاطرها التي ما نزال نتجاهلها، مع اكتتاب الأهلي.
وفي مقال السبت القادم شواهد، لاهم إطروحات الاقتصاد المسمى بالإسلامي. شواهد مبكية مضحكة في تناقضها لصريح النص والعقل والواقع والعلم، شواهد لاقتصاد باقر الصدر الذي تبناه الأخوان فزرعوه في عقولنا فألزموا طلابنا بدارسته ثم نشروه عالميا من جامعتنا وبأموالنا. فهل سنُحمل اللوم على نشر اقتصاد باقر الصدر والأخوان، فنُتهم بذنب ليس بذنبنا، كما حصل في تحميلنا لوم داعش والقاعدة ولا ذنب لنا، فما أشبه اليوم بالبارحة.