الجرائم البشعة التي تقترفها منظمات إرهابية - سنية أو شيعية - في العراق وسورية واليمن والصومال وليبيا ومصر ولبنان وبلاد أخرى، بنماذجها المعروفة من تفجيرات انتحارية عشوائية في أسواق مكتظة أو مراكز تجمع، لا تسلم منها حتى أماكن العبادة ومواكب الجنائز والأعراس،
ويذهب ضحيتها أطفال ونساء وشيوخ، ومن خطف وذبح للمدنيين أو للأسرى، ومن تمثيل بالقتلى، ومن حبس وجلد لمرتكبي مخالفات غير كبيرة، ومن طرد للسكان المسالمين غير المنتمين إلى طائفتهم من بيوتهم وأعمالهم أو سلب ممتلكاتهم - كل هذه الأفعال وأمثالها يبررها مرتكبوها بأسباب دينية أو مذهبية أو بالدفاع عن الطائفة. والأصح أن مبرِّرها الوحيد هو الكراهية تجاه الآخر المختلف عنهم ديناً أو مذهباً أو طائفةً. الأصل هو الكراهية التي تولّد منها التطرف، ثم تولّد من التطرف الإرهاب. وخلال عبور هذه المراحل يموت الشعور بالرحمة أو بالندم أو بالخوف. ولكن ما الذي ولّد الكراهية نفسها: هل هو الانتماء الديني أو المذهبي أو العرقي أو الطائفي ؟ لا حاجة للتذكير بأن التاريخ القريب والبعيد يعلّمنا أن الأديان المختلفة وكذلك المذاهب والطوائف والأعراق تعارفت وتعايشت مع بعضها البعض على الرغم من الاختلاف. فالكراهية لا تنشأ من اختلاف الانتماء في حد ذاته، ولكنها تنشأ عند تخليق صورة العدوّ. فالطرفان المختلفان يصبح أحدهما عدوّاً للآخر عندما يستغل أصحاب الهوى ظروفاً معينة مثل:
- تنافس على مصلحة معيشية عند شحّ الموارد مثل الأرض والماء والمراعى...الخ.
- إحساس بالقهر من حُكْمٍ ظالم.
- تفاضل في الامتيازات لطرف على آخر أو لطبقة على أخرى.
- طموحٌ إلى الزعامة والسيطرة.
لتوليد الكراهية الجماعية. لكن هذا يتطلب شحناً عاطفياً للجماعة يقوم به أفراد يملكون القدرة على التأثير وموهبة الفصاحة والطموح للزعامة والسيطرة أو هوس العظمة؛ وعلى مقدار وقوة هذا الشحن يكون قدر الكراهية. ولكن ما دور العنصر الديني والمذهبي أو الطائفي أو العرقي في التطور إلى الإرهاب، إذا لم يكن هو الرّحم الذي يولّد الكراهية ؟ إنه دور يصطنعه أولئك الذين يريدون إشعال نار الكراهية في صدور قومهم، عندما يوهمونهم أن الآخرين أعداء لمعتَقدهم أو طائفتهم أو عرقهم، فيثيرون فيهم الغيرة والتطرف في العداوة؛ ومن ثَمّ يمتطى أولئك الأفراد هذه المشاعر ليبرروا إرهابهم وليحققوا أغراضهم السياسية. اصطناع دور مزيّف للدين أو الطائفة أو العرق هو الآلية - أو قل هو السلاح المعنوي الذي يوقد جحيم الإرهاب.
وفيما يتعلق بتزييف دور الدين الإسلامي على يد منظمات إرهابية مثل (داعش) و(القاعدة) وما تفرّخ منهما، فليس خفيّاً شطارة زعماء هذه المنظمات في تأويل الآيات القرآنية والأحاديث النبوية على المعاني التي تخدم أغراضهم - منزوعة من سياقها الزماني والمكاني - ليحكموا بها على الواقع المعاصر، فيبدو الاختلاف ضخماً بين ظاهر النصوص وواقع الحال المعاصر، ويرون ذلك كافياً للتكفير ومبرراً للإرهاب، ويتوهم المراقب الغريب نسبة ذلك حقيقة إلى الإسلام. وباستخدام هذه الآلية فإن أولئك الإرهابيين يصنعون المعول الذي يهدم الدين. لكن هذا لا يهمّهم ما دام يخدم تحقيق أغراضهم. لذلك لا نعجب إن أقدم مفكر وأديب هولندي هو (Leon de Winter) في مقاله المنشور بجريدة (Die Welt) الألمانية بتاريخ (11-9-2014 )على إلصاق تهمة الإرهاب بالإسلام ونبيّ الإسلام - عندما يقول مثلاً : (إن قَتَلَةَ الدولة الإسلامية (يعنى داعش) يدّعون لأنفسهم أنهم الورثة الحقيقيون للنبي محمد، وإن المرء عندما يقرأ القرآن والحديث يصعب عليه أن يعارضهم في ذلك!). هكذا إذن يأخذون نصوص الشريعة بحرفيّتها ويؤوّلونها على هواهم فيجعلون الجاهل بدين الإسلام يتوهّم أن هذا هو الإسلام النقي الذي بشر به محمد.
أما الباحث الفلسطيني المسلم أحمد منصور (وهو يعيش في ألمانيا منذ عشر سنوات) فيقول في مقال له بمجلة (Der Spiegel) الأسبوعية بعددها رقم (37/2014) ما ملخصه (نحن - المسلمين - علينا أن نشرع في طرح أسئلة على أنفسنا بحثاً عن الأشكال الفكرية والمضامين العقدية التي انتقاها المتطرفون فأوغلوا في التطرف في تأويلها، حيث إن خطورة التيارات المتطرفة لا ترجع إلى ما يختلفون به عن الإسلام الذي نعرفه، بل إلى ما توحي به من التشابه مع مثل ما درج الأطفال المسلمون على تعلمه في المدرسة من مفاهيم (مثلاً) حول فتنة النساء أو حول الكفار المجرمين؛ ولذلك تكون هذه المفاهيم مألوفة لديهم عندما يصبحون شباباً. ويعرف المتطرفون كيف يعززون مثل هذه المفاهيم بتأويلاتهم المتطرفة، فيكون بعض الشباب عرضةً للتأثر بادعاءاتهم). وهؤلاء الكتاب وأمثالهم - حين ينخدعون بتأويلات المتطرفين فيتوهمون وجود تشابه بين ادعاءاتهم وفِعالهم وبين ما يسمعه المصلّون من بعض الخطباء أو ما يتعلمه الطلاب من بعض المقررات - لا يُغفلون التأكيد على أن الأغلبية العظمى من المسلمين طيبون ومسالمون.
خلاصة الأمر أن إرجاف المتطرفين بتأويل النصوص الشرعية على هواهم ليبرروا عدوانيتهم وإرهابهم للمسلمين والمستأمنين من غير المسلمين يتطلب من ذوى الرأي والفكر الثاقب من علماء الإسلام المتنوّرين أن يقدحوا عقولهم ليفضحوا - أمام العالم كله - إرجاف زعماء التطرف، مستندين إلى النصوص الشرعية في مصادرها الصحيحة وفى سياقها الصحيح فيشرحوا معانيها بما يمكن معه فهمها في ضوء حال الواقع المعاصر وتغيّر السياق الزماني والمكاني، وفي إطار الوسطية والاعتدال والمحافظة على مقاصد الشريعة؛ ثم إن عليهم الدعوة إلى تعليم النشء أساسيات الدين - عقيدةً وشريعة وخلقاً - المفروض عليهم أداؤها واللازمة لهم في حياتهم وتعاملهم، بطريقة تعتمد على الفهم وشحذ التفكير وليس على مجرد التلقين وحفظ ما يلزم وما لا يلزم.