في هذا الوطن كل جيل يكمل مسيرة الجيل الذي قبله، وكل مسؤول يستكمل منظومة العطاء للمسؤول الذي سبقه.
نحن في هذا الوطن نؤدي سابقين ولاحقين ((أمانة العمل)) إيفاء للأمانة أمام الله أولاً، ثم اتباعاً لتوجيهات ولي الأمر لتحقيق كل ما يخدم الوطن والمواطن.
((ومنجم للرجال أرض بلادي)) كما قال الراحل د. غازي القصيبي.
أكتب هذا المقال وأحاول جاهداً أن أنأى عن تأثير عاطفتي وعلاقتي ومودتي للرجلين الفاضلين السلف والخلف.
بالأمس ترجل معالي د. الفاضل عبدالعزيز خوجة عن كرسي وزارة الثقافة والإعلام، وصدر الأمر الملكي أن يتولى مسؤوليات هذه الوزارة معالي د. بندر الحجار.
لقد ترك د. عبدالعزيز خوجة حقيبة الوزارة بعد أن أدى أمانته، وأوفى بمسؤولياته بكافة المواقع والمناصب التي شغلها، بدءاً من عمله بجامعة الملك عبدالعزيز، ثم وكيلاً لوزارة الإعلام، ثم سفيراً بتركيا وروسيا والمغرب ولبنان، ثم وزيراً للثقافة والإعلام، وكان نعم المؤتمن: إنساناً ومسؤولاً.
لقد كان إنساناً بتعامله مضيئاً بخلقه متواضعاً مع زملائه وكل المتعاملين معه في كل الجهات التي عمل بها.
كان يتعامل بحلم، ويعمل بجلد.. لقد عرفته على مدى سنين طويلة فلم يتبدل ولم يتغير؛ ظلت معه هذه السجايا التي منحه الله إياها فأنجز وأعطى.
وفي وزارة الثقافة والإعلام التي هي حقاً من أصعب الوزارات كانت له منجزات، شهد له بها وطنه لما قدمه وأضافه فرغم تبعات العمل اليومي المتعب والسريع فيها بحكم طبيعة عملها إلا أن هذا العمل اليومي المرهق على مدى (24) ساعة لم يشغله عن أعمال مشهودة في فضاءات العمل الثقافي والميدان الإعلامي، تمت بدعم ومؤازرة خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله.. لعل في مقدمة هذه المنجزات: إنشاء فضائية القرآن الكريم من مكة المكرمة التي تقدم قرآناً يتلى على مدى اليوم والليلة من أم القرى ناقلة للمشاهدين بالدنيا أعظم مشاهد روحانية حية من بيت الله الحرام، وقناة ((السنة النبوية)) من المدينة المنورة التي تصدح بأحاديث المصطفى عليه الصلاة والسلام مصحوبة بمناظر مضيئة من مسجده صلى الله عليه وسلم.. ثم تلا ذلك قيام ثلاث هيئات إعلامية: هيئة الإذاعة والتلفزيون، هيئة وكالة الأنباء السعودية وهيئة الإعلام المرئي والمسموع، التي تابع وناضل من أجل قيامها على أرض الواقع، فضلاً عن مكتسبات إعلامية داخلية كإصدار العديد من اللوائح التي تنظم العمل الثقافي والإعلامي، وأخرى كثيرة تحققت خلال توليه الوزارة.
وفي الميدان الثقافي استطاع أن يبلور معطيات مشهدنا الثقافي أمام الآخر، سواء عبر كيانات الوزارة في الأندية الأدبية وجمعية الثقافة والجمعيات الأخرى وعبر معرض الرياض الدولي للكتاب وعبر الأسابيع الثقافية في مختلف أرجاء العالم، وكان يتابع الشأن الثقافي حرصاً منه على أن تتماهى مخرجاته مع حضور بلادنا السياسي والاقتصادي والتنموي.
أقول لك - وفاء وصدقاً - بعد أن غادرتَ مكانك وبقيت مكانتك - يا أبا محمد -: لقد أعطيت وأخلصت على مدى عقود عديدة؛ فأرضيت ربك أولاً، ثم قيادتك، ثم أبناء وطنك. ولقد ذهبت مرتاح الضمير، مبقياً أجمل ذكرى مضيئة على صفحة وطنك وعلى ألسنة مواطنيك. وأقول لك ما قاله ذلك الشاعر لمسؤول كبير رحل عن العمل بعد مسيرة من العطاء والتعب:
أرح ركابك من همّ ومن سهر
كفاك جيلان محمولاً على النصب
وما أكثر انطباق هذا الوصف على عملك الأخير المفعم بالسهر والتعب.. ولننتظر عطاءك في ميدان آخر من ميادين الوطن.. وأختم حديثي عنك بكلمة وفاء جميلة سمعتها من معالي خلفك الوفي د. بندر الحجار بعد أن تولى قيادة الوزارة من بعدك ((والنّعم بأبو محمد)).. وقد صدق.
أما معالي د. بندر الحجار فقد عرفت وشرفت بزمالته بمجلس الشورى على مدى (12) عاماً بوصفه عضواً ثم نائباً لرئيس المجلس، ثم تواصلت معه مسؤولاً ومحباً خلال توليه وزارة الحج، فكان المسؤول المخلص والإنسان الفاضل. د. بندر رجل لا تملك إلا أن ترتاح له مسؤولاً وإنساناً.. فهو على مستوى المسؤولية يملك رؤية وطنية يبنيها على المعلومة والرقم والاستعانة بآراء من يمتلكون الخبرة؛ لهذا أنجز وأضاف بالمجلس. وقد ودع المجلس بعد أن أبقى أعمالاً تشهد له في مجلس الشورى من خلال عضويته ونيابته، وجاء لوزارة الحج محملاً بتجربته الطويلة بالمجلس، واستطاع بتوفيق الله وبجميل عمله وتعامله أن يخطو بالوزارة خطوات كبيرة، وأن يحلّ كثيراً من عقبات العمل فيها، وهي وزارة لا تتعامل ولا تقدم خدماتها لأبناء وطنه فقط بل هي تقدمها لمليار ونصف المليار مسلم بمختلف بقاع الأرض على تباين جنسهم وجنسيّاتهم ولغاتهم وثقافاتهم واحتياجاتهم، وهي تتعامل مع مؤسسات طوافة وشركات عمرة هي ضمن مؤسسات المجتمع المدني، فضلاً عن أن العمل يؤدَّى في مواسم بالغة الأهمية كموسم الحج وعمرة رمضان، ولكن - بحمد الله ثم بدعم قيادة الوطن - استطاع مع زملائه بالوزارة والمؤسسات العاملة بالحج والعمرة وخلال سنوات محدودة بهذه الوزارة أن يضيف إلى ما قدمه أسلافه من الوزراء من منجزات كبيرة في خدمة ضيوف الرحمن طوال العام، وكان موسم حج هذا العام وعمرة رمضان الماضي أكبر الشواهد على نجاحه بالمسؤولية التي تقلدها، وكان من أكبر ما وفقه الله إليه جعله العمل يسير على ((مسارات إلكترونية))، سواء بالوزارة أو مع المؤسسات التي تعمل في خدمة الحجاج والمعتمرين والزوار، فتم ضبط العمل وراحة ضيوف الرحمن، حتى رأينا أنه في هذا العام، وبعد مضي أيام معدودة على موسم الحج بأيام، لم يبقَ متخلفٌ من الحجاج إلا أقل من ستة آلاف بعد أن كان يبقى عشرات الآلاف إلى موسم الحج القادم، وفي خطوة غير مسبوقة حددت وزارة الحج ألا يبقى بالمملكة باليوم الواحد سوى 500 معتمر ما بين مكة والمدينة لتخفيف الزحام بالحرمين، وليؤدي المعتمرون عمرتهم وصلاتهم بارتياح ودون تدافع أو ازدحام شديد.
د. الحجار من نوع أولئك الرجال الذين يستمعون وينصتون للرأي الآخر مهما كان اختلافهم معه، وقد تجسد ذلك أمامي بمجلس الشورى، سواء عندما كان عضواً يقدم مداخلاته الرصينة، ونائباً يتولى رئاسة الجلسات أحياناً.. ورأيت ذلك أيضاً عندما رأس إحدى اللجان المتخصصة التي كنت عضواً فيها، وكان يدير اللجنة بحكمة وحلم، وكان يستمع مهما اشتد زميل برأيه، لكن كان بحكمته يجعل اللجنة تصل إلى الرأي الذي يخدم الوطن.
من هنا أبقى ذكراً عاطراً بالمجلس، وأبقى منجزاً بين أروقة مجلس الشورى وتحت قبته، ثم جاء لوزارة الحج وأعطى وما زال يعطي، ومن المؤمل أن يعطي ويضيف لوزارة الثقافة والإعلام لما قدمه سلفاً، وهو الذي جاءها ممتلكاً أدوات النجاح من إدارة وعمل ميداني وخبرة واسعة إدارياً وشوريّاً.
لا أملك في نهاية هذه السطور إلا أن أدعو الله أن يسعد ويوفق حبيبنا الفاضل د. عبدالعزيز خوجة الذي أبلى بلاء حسناً في كافة مواقعه ومناصبه، وآخرها وأصعبها ((الوزارة المرهقة)). أقول مرهقة؛ فقد بلوت أعمالها مستشاراً ومشاركاً ومساهماً في المجالين الإعلامي والثقافي، ولا أزال. وأدعو الله للوزير الخلف د. بندر الحجار أن يعينه ويسدده، وأثق بأنه بعون الله - مع معالي نائبه وزملائه بالوزارة ومع المسؤولين والعاملين بالهيئات الإعلامية التي يرأس مجالس إداراتها - سيعطي ويضيف وهو على كرسي وزارة الثقافة والإعلام كما أعطى وأضاف سلفه، وسيمتد خيط نجاحه - بإذن الله - إلى هذه الوزارة خلال توليه لها: نيابة وربما أصالة فيما بعد؛ ليحقق فيها بتوفيق الله نجاحات ومكتسبات أخرى بدعم ومتابعة خادم الحرمين الشريفين وسمو ولي عهده.