أظهرت النتائج النهائية للانتخابات التشريعية في تونس والتي جرت في 26 أكتوبر الماضي، تصدر القوى المدنية / العلمانية وفي مقدمتها حزب «حركة نداء تونس» الذي فاز بـ85 مقعداً في البرلمان الجديد البالغ عدد مقاعده 217 بحسب النتائج الرسمية التي أعلنتها الهيئة العليا المستقلة للانتخابات، في حين جاء حزب حركة النهضة الإسلامي الذي كان يقود ما يعرف بالترويكا الذي حكم تونس منذ انتخابات 2011 وحتى مطلع هذا العام في المركز الثاني بعد حصوله على 69 مقعداً كما حصل الاتحاد الوطني الحر وهو تنظيم حديث النشأة على 16 مقعداً وتلاه الجبهة الشعبية الذي يضم 12 حركة يسارية في المركز الرابع بحصوله على 15 مقعداً، وبدوره بادر راشد الغنوشي زعيم حركة النهضة التي أقرت بهزيمتها للاتصال بباجي قائد السبسي لتهنئته بالفوز، كما أعلنت الهيئة العليا المستقلة بأن نسبة المشاركة في الانتخاب ممن يحق لهم التصويت بلغت 60%.
الجدير بالذكر بأن الانتخابات البرلمانية الأخيرة شهدت منافسة 1300 قائمة حزبية وفردية غير أن غالبيتها الساحقة لم تنل أي مقاعد في البرلمان، كما أسفرت الانتخابات عن انحسار كبير في شعبية حزبي المؤتمر والتكتل ضلعا تحالف حكومتي الترويكا، حيث حصل حزب المؤتمر من أجل الجمهورية الذي يتزعمه رئيس الجمهورية المؤقت المنصف المرزوقي على 4 مقاعد مقارنة بـ 29 مقعداً في انتخابات 2011، حيث جاء آنذاك في المرتبة الثانية بعد حركة النهضة، في حين لم يحصل حزب التكتل من اجل العمل الذي يتزعمه رئيس البرلمان السابق مصطفى بن جعفر سوى مقعد واحد مقارنة بـ 20 مقعداً في انتخابات 2011
السؤال الذي يطرح نفسه هنا: ما هي دلالات الانتخابات البرلمانية الأخيرة وما هي انعكاساتها في رسم مستقبل تونس؟ بداية يمكن القول بأن تونس التي دشنت ما عرف بثورات « الربيع العربي في 17 ديسمبر 2010، تجنبت أو بالأحرى تجاوزت حتى الآن الانحدار إلى الفوضى والتشطير والصراعات والاستقطاب الحاد بين القوى والمكونات السياسية والاجتماعية والتي وصلت إلى حد المواجهات العسكرية الطاحنة بين المليشيات المذهبية والمناطقية والقبلية على غرار ما يجري في جارتها ليبيا أو سوريا واليمن، ناهيك عن العراق إثر وقوعه تحت الاحتلال الأمريكي في عام 2003، في حين أقدمت المؤسسة العسكرية المصرية على عزل الرئيس السابق محمد مرسي، في أعقاب ثورة 30 يونيو ضد حكم الإخوان المسلمين والتي شارك فيها عشرات الملايين من المصريين، وبذلك تم تجنيب مصر كوارث محدقة بالدولة والمجتمع، من جراء نهج الاستفراد والاستقواء والإقصاء الذي مارسته جماعة الإخوان المسلمين على مدى حكمهم القصير.
ومن الواضح بأن حركة النهضة استوعبت جيداً أسباب انهيار حكم الإخوان في مصر والذي يعود إلى فشلهم على كل الأصعدة والمستويات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وسعيهم الحثيث لاحتكار السلطة والعمل على أخونة الدولة والسلطة والمجتمع، وهو ما أدى إلى تنامي حدة الاستقطاب والصراع السياسي، واتساع الحراك الشعبي والمدني العارم ضدهم، إلى أن تم إسقاطهم وتحجيمهم، لذا أقدمت حركة النهضة في شهر فبراير الماضي على حل حكومة الترويكا وتشكيل حكومة مؤقتة تضم شخصيات مستقلة، وذلك في أعقاب اندلاع المظاهرات الشعبية الغاضبة الواسعة، وتصاعد حدة الاستقطاب السياسي ما بين القوى المدنية والعلمانية واليسارية من جهة، وحركة النهضة وحلفائها من جهة أخرى، وذلك على خلفية اغتيال النائب اليساري محمد البراهمي، وكذلك احتجاجا على فشل حكومة الترويكا في معالجة الملفات الاقتصادية والاجتماعية والأمنية وقضايا الشباب والمرأة والمناطق المهمشة، إلى جانب اتساع حدة البطالة والفقر. وبفضل ما اتسمت به حركة النهضة من فهم أفضل للواقع التونسي الذي يتسم مجتمعه المدني بالحيوية والتعددية ورسوخ قيم الحداثة والعلمانية، مما فرض عليها اكتساب مرونة و» براجماتية « واعتدال، وذلك بخلاف حركات الإسلام السياسي في مصر وليبيا والمشرق العربي، وهي بذلك استطاعت المحافظة على وجودها كقوة سياسية فاعلة لها حضورها الشعبي الوازن. قد يتوهم البعض بأن تونس قد رجعت إلى الوراء بحجة وجود بعض رموز العهد البائد في حزب نداء تونس، لكن الواقع يقول بأن ذلك غير صحيح، لأن حزب نداء تونس ائتلاف واسع يضم قوى ومجاميع سياسية واجتماعية ومدنية ونقابية متباينة في توجهاتها السياسية والفكرية، كما أن التغير لم يكن بفعل ثورة مضادة ولكن عن طريق صناديق الاقتراع. في جميع الحالات فإن تونس مقبلة على مرحلة جديدة تتسم بالكثير من التحديات والتي يأتي في مقدمتها معالجة قضايا التنمية الاقتصادية والأمن في ضوء تصاعد دور المجموعات الإرهابية والمتطرفة، إلى جانب التصدي لمشكلات الفقر والبطالة والمناطق المهمشة، وقبل كل شيء إيلاء الاهتمام بالشباب المهمش والمحبط والذي انعكس في مقاطعة 60% منهم للعملية الانتخابية الأخيرة.